الحياة، وهو شفرة ذات حدّين، تمكّن بإحداهما من الجهل فتبتره وترديه، وتمكّن بالآخر من النقص فتدلّ على جرثومته، وتنادي بضرّورة القضاء عليها، وإزالة الضعف، وإرجاع الكمال. إنّ الإنسان المتمدّن يؤمن بالقوّة، وبدين بالأرقام، وقد اتخذ الإحصاء معياراً يقيس به القوّة، ويحدّد كلّ شيء، ومن الجهل والسذاجة أن نرى غير ما هو، ونصدّق غير ما نبصر، فالدّول العظيمة اليوم هي الدّول الكبرى بأرقامها، وبجميع هذه الأرقام، تقدّر نفوسها بمئات الملايين، وتقاس اقتصاديّتها وجحافلها ومخابرها وجامعاتها بميزان الأرقام، ومن شأن الإحصاء العالميّ أنّ يرسم سلّم عظمة الشعوب قوّة وضخامة، ويظهر حيوّيتها الزراعيّة والصّناعيّة والتّجاريّة والحربيّة والعلميّة، ونحن علينا أن ندرك ذاك، ونطلب من كلّ حقيقة أعظمها، ونجعل هدفاً لنا غاية درجات السّلّم كي نفوز.
ولكنّ الأرقام، مثل كلّ سلاح، هي حياديّة ذاتها، قد تحسن أو تسيء، تبعاً لجودة استعمالها أو عدم جودة استعمالها. وإذا عرف العدو أرقام إحصاء عرف مبلغ القوّة، ووضع بذكائه تصميماً يعيّن احتمال التّطور القريب والبعيد، وأعدّ العدّة الملائمة، ووصل إلى مراميه الشريرة من أقرب طريق، وأسهل سبيل، وذلك بالأرقام.
أمّتنا المناهضة
والأرقام في المجتمع تدلّ على رفاهيّته وحيويّته، فأنت بها تعرّف النّشاط والتّجدد أو الخمول والذبول، وأنت بها تدرك صحّة نظام المجتمع إن كان النّظام صحيحاً، فعلى كلّ مجتمعٍ ألاّ يفصل حياة الجسم عن حياة الروح، فليس الجسم السليم أحقّ بالعناية في أمّةٍ حيّةٍ من العقل السليم، وعلى كلّ مجتمعٍ أن يحصي سكّانه ويساوي بين حقوقهم ليساوي بينهم في الواجبات، وعلى كلّ مجتمع أن يفهم نسبة الأميّة ذيوعاً، فيعالج انتشارها المخجل، ويعمل على التّحقق من أسباب فتك المرض بالأطفال وبالفقراء وبالزرع وبالعمّال، ويحرص في مكافحة الدّاء حرصه على مكافحة الأميّة التي تحرم الإنسان من وجوده كإنسان.
لقد خلق الله البشر، فخلق البشر الأرقام، وإذا كان الله صالحاً كلّه، فالبشر ليسوا جميعاً أمام الخير سواء، والأرقام هي ما يحارب به الإنسان الطبيعة ليتغلّب عليها ويسخّرها، وهي ما يخدع به البلهاء من ضعاف العقول سحراً وشعوذة وطقوساً، وإذا انتهى التّطور بالإنسان