يتمرسون بها. للذين يعانوها بكل ما في أعماقهم من قوة وما في أذهانهم من شوق ومطامح، كفيلة أن تبيح لهم خيراً كثيراً أن هم استطاعوا أن يتبينوا فيها وجهيها: وجهها المادي ووجها المعنوي.
إن خطأ نظرتنا إلى الحياة في الشرق العربي هذه النظرة التي ت \ تسرف في المعنوية فتطير على الأجنحة، وتحلق فوق السحاب وتعيش في هالات من الغموض أو من الإشراق وفق ما يتاح لها. ومن أجل هذا الإسراف تتسرب في هذا الشرق العربي نظرات أخرى لا تسرف في الجانب المعنوي ولا تلزم القصد فيه، ولكنها تسرف في جانب مادي مناقض، إنها تريد أن تقيم حياتها وفاق هذا الواقع القريب الذي يلفها، ومن أجل ها الواقع، وعلى نية إصلاحه تحاول أن تميت كل شيء آخر، التسامي والتطلع وارتياد آفاق الروح تحاول أن تطمس في الحياة وجهها المشرق الآخر.
* * *
في هاتين النظرتين إلى الحياة يوشك الشرق العربي أن يضل طريقه إلى الحياة يوشك أن يضلله هؤلاء وأولئك إن لم تأخذ بيده فكرة نيرة تعرف كيف توازن بين ما تحمل باليمين وما تحمل بالشمال. وتدرك كيف تمد يداً إلى الأرض ويداً إلى السماء وتستطيع أن ترعى في الحياة وجهيها الذين لا يستطيع أن تستغني عنها: وجهها الذي يعفره التراب والدخان والعمل المبارك المثمر ووجهها الذي يغمره الإشراق والنور وسبحة الروح الواسعة.
ومن العبث أن نقدر النجاح إن نحن لم نصحح كذلك نظرتنا إلى الحياة، وليس هذا التصحيح ارتجالاً ولا خيالاً، ولكنه استمداد من (الواقع) نفسه، فهذا (الواقع) يعلمنا أن وراءه جواً آخر يتوجه، وهذه (الضرورة) تلفتنا إلى أن في أعماقها أفقاً تسمو إليه، وكل محاولة أخرى يقبل عليها الشباب العربي لن تكون إلا تجربة ستنتهي حتماً إلى التعديل وليس من مصلحة الشباب العربي أن يفني حياته في التجارب، لأن هذه التجربة نفسها ليست مرحلة ضرورية في طريق الحياة. بل أن كل محاولة أخرى ليست إلا رفرفة غير منتظمة. إن للحياة جناحيها ولن تستطيع أن تحقق غايتها إن هي لم توازن بين هذين الجناحين، فيكمل كل منها حركة الآخر.