الحرية في اختلاف النزعة في الملبس والمأكل والمشرب والعمل والنشاط، ولنا الحرية في التأدب واللطف أو الثقل وعدم المبالاة، ولنا الحرية في الاقتصار على حياة المخلوقات غير الإنسانية من غذاء وحركة ونوم، وإهمال الابتسام والسمو والفن. وقد تكون عقلية هؤلاء العقلاء أقلّ مما يدعون، أو أعظم مما نعرف وعندها نقبل آراءهم على الإطلاق، ولكن هل لك الحرية التامة في قبول هذه الآراء، أم لك الحرية التامة في انتقاد هذه الآراء.
إننا مكرهون في كل شيء، أيها القارئ العزيز، وقد نظن إن الحرية المطلقة أمر معقول، وتحسب أن ما هو معقول موجود، ولكننا نخطئ في الحسبان.
ونأثم في الظن، ولكننا مرغمون على هذا الخطأ، ليست لنا حرية عدم الوقوع فيه لكي نصنع حرية سليمة ليس فيها إكراه.
العبودية المشتركة
والحق أن فكرة الحرية في رأيي هي فكرة اجتماعية، من حيث هي فكرة، على الأقل، خلقها الإنسان حينما كان عبدا يسترقه القوي من الإنسان، وأبدعها حينما كانت الطبيعة هي الملك المستبد، فجاءت فكرتنا عن الحرية هي التحرر في الدرجة الأولى، وصرنا نتوق إلى النهايات العظمى، ففتن الإنسان بالحرية، وآمن بها، ووصفها قبل رؤيتها، وخلقها فبل وجودها، وأصبحنا جميعا نفتش عنها ونعبدها قبل فهمها، ومن غير فهمها، ولسنا أحراراً في كل ذاك.
وعندي أن نرجع لحظة إلى الصواب، فنعترف بأن ما يوجد في الواقع ليس الحرية لأنه غير الحرية التامة، إن ما يوجد فعلا عندنا وعند الناس أجمعين هو ما يصطلح بعض المفكرين ورجال القانون على تسميته بالحرية النسبية، والأصح أن ننظر إلى الحرية عند ذاك في حقيقة ثوبها، فنجدها عبودية مشتركة، وهي عبودية من نوع جميل محبوب، عبودية كل الأفراد على التساوي فيها، عبودية أبناء المجتمع من حيث هم نسغ المجتمع، بل هي عبودية الإنسان مع الإنسان لا فوق الإنسان، هي عبودية يرضى فيها الناس مرغمين ما داموا مكرهين على العيش المشترك، وهدفهم من كل ذلك البقاء في الوجود، وخلق المدينة الإنسانية كهدف لهذا الوجود.