وقد كان مجتمعنا في عصوره الأموية والعباسية يعنى بالأدب والموسيقى، والفن والمناظرات. . . والجدل، إلى جانب العناية بالجيش والعلم والاقتصاد والسياسة، غير أن مجتمعنا بالأمس لم يكن حرا في كل ذاك، لأنه كان مجتمعا راقيا متمدنا، وكل مجتمع راق حقيقي لا يستطيع أن يهمل حياة الفن والأدب ويقتصر على حياة الطعام والشراب، كيفما اتفق الطعام والشراب لقد كان أسلافنا أكثر جدية ونشاطا في واجب الجد والنشاط، وكانوا أقل جمودا في حقل الرقي الفني وإصلاح الحياة، ووضعهم يلخص في إنهم كانوا على درجة كبرى من التمدن والإنسانية، لا تضيق أفكارهم حتى تخنق ذاتها، ولا تضيق صدورهم حتى تفني الذوق في القلوب، وكان اضطرارهم إلى طلب المجد عبودية رائعة، ورقا محببا، وهذا الإكراه تفرضه سنة الطبيعة، وناموس الكون.
أما اليوم فصرنا نخشى الكلام عن الفن، لأننا نحسب إن الفن زائد ضار، وصرنا نرغم على قبول الصمت والهدوء، لأن الموسيقى لا تلاقي تشجيعا، والنشاط غير مستحب، وصرنا لا نعقل ما نريد، فنحار في أمر المرأة وفي أمر الرجل، ولا ندري أن سلامة الأسرة في تعارف ذوي العلاقة المباشرة في عقد الزواج، وأصبحنا نشك في أن السفور يجب أن يبلغ العقول وراء الوجوه أو الرؤوس، وغدونا نرى من الطبيعي أن نبقى على الرصيف دهرا لعدم الانتظام وقلة الاحترام وقصور الوسائل والقاطرات، وأصبح البقاء في الظلام مألوفا كالبقاء في ظلام الجمود.
العظمة والحقيقة
ولعل الإنسان أكثر فلسفة مما يظن، فيحسب إنه يرضى بما يصادفن ولكنه إذا فكر في سبب الرضى وجد أنه غير راض أبدا، يرضيك أن تعيش فلا تموت، ولكن فكر لحظة تشاهد أنك تعمل على الرقي بالعيش وتود أن تعيش إلى أبعد وقت، وأن تعيش على أكمل حال، وعندها تتمنى أن تكون حرا في بلوغ الرقي، وتعتقد أنك مرتفع بمواطنيك إلى أعلى عليين.
والحق أنك مكره على ذلك ما دمت تحترم إنسانيتك في نفسك، وقد تطلب عندئذ الظهر في منتصف الليل، والضياء في حلكة الظلام، وأنت واهم في الواقع، ولكنك سعيد بهذا الوهم، ونحن نؤمن بوهم السعادة عند الإنسان، ونجد إن هذا هو الأصل في الحياة، ونود قبل كل