للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ما ضمنه من المصالح والفوائد= حُتِّمَ عليها عينًا، ولم يُقْبَل منها سواه؛ فكان التَّخييرُ في وقته مصلحةً، وتعيينُ الصَّوم في وقته مصلحةً، فاقتضت الحكمةُ البالغةُ شرعَ كلِّ حكمٍ في وقته؛ لأنَّ المصلحة فيه في ذلك الوقت.

وكذلك فرض الصَّلاة أوَّلًا ركعتين ركعتين، لما كانوا حَدِيثي عهدٍ بالإسلام، ولم يكونوا معتادين لها ولا ألِفَتْها طباعُهم وعقولهم، فُرِضت عليهم بوصف التخفيف، فلمَّا ذُلِّلت بها جوارحُهم، وطوَّعت (١) بها أنفسُهم، واطمأنت إليها قلوبهم، وباشرَت نعيمَها ولذَّتها وطِيبَها، وذاقت حلاوة عبودية الله فيها ولذَّة مناجاته= زِيدَت ضِعْفَها، وأُقِرَّت في السَّفر على الفرض الأوَّل؛ لحاجة المسافر إلى التخفيف، ولمشقَّة السَّفر عليه.

فتأمَّل كيف جاء كلُّ حكمٍ في وقته مطابقًا للمصلحة والحكمة، شاهدًا لله بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، الذي بهرت حكمتُه العقولَ والألباب، وبدا على صفحاتها بأنَّ ما خالفها هو الباطل، وأنها هي عينُ المصلحة والصَّواب.

ومِنْ هذا أمرُه سبحانه لهم بالإعراض عن الكافرين، وتركِ أذاهم، والصَّبر عليهم، والعفو عنهم، لمَّا كان ذلك عينَ المصلحة؛ لقلَّة عَدَد المسلمين، وضعف شوكتهم، وغلبة عدوِّهم، فكان هذا في حقِّهم إذ ذاك عينَ المصلحة، فلمَّا تحيَّزوا إلى دارٍ، وكثُر عددهم، وقَوِيَت شوكتُهم، وتجرَّأت أنفسُهم لمناجَزة عدوِّهم= أَذِنَ لهم في ذلك إذنًا من غير إيجابٍ عليهم؛ ليذيقهم حلاوة النَّصر والظَّفر، وعِزَّ الغلبة، وكان الجهادُ أشقَّ شيءٍ على النُّفوس، فجعله أوَّلًا إلى اختيارهم إذنًا لا حتمًا، فلمَّا ذاقوا عِزَّ النَّصر


(١) (ت): «تطوعت».