للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومعلومٌ أنَّ هذه الجهات بأسرها حاصلةٌ للعلم؛ فإنه أعمُّ شيءٍ نفعًا، وأكثره وأدومُه، والحاجةُ إليه فوق الحاجة إلى الغذاء، بل فوق الحاجة إلى التنفُّس؛ إذ غايةُ ما يُتَصوَّرُ من فقدهما فقدُ حياة الجسم، وأما فقدُ العلم ففيه فقدُ حياة القلب والروح؛ فلا غَناءَ للعبد عنه طرفةَ عين، ولهذا إذا فُقِدَ من الشخص كان شرًّا من الحمير، بل كان شرَّ الدوابِّ (١) عند الله، ولا شيء أنقصُ منه حينئذ.

وأما حصولُ اللذَّة والبهجة بوجوده؛ فلأنه كمالٌ في نفسه، وهو ملائمٌ غايةَ الملاءمة للنفوس؛ فإنَّ الجهلَ مرضٌ ونقص، وهو في غاية الإيذاء والإيلام للنفس، ومن لم يشعر بهذه الملاءمة والمنافرة فهو لفَقْدِ حسِّه وموت نفسه، و «ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ» (٢).

فحصولُه للنفس إدراكٌ منها لغاية محبوبها، واتصالٌ به، وذلك في غاية لذَّتها وفرحتها، وهذا بحسب المعلوم في نفسه ومحبة النفس له ولذَّتها بقربه، والعلومُ والمعلوماتُ متفاوتةٌ في ذلك أعظمَ التفاوت وأبينَه، فليس علمُ النفوس بفاطرها وباريها ومبدعها ومحبَّته والتقرُّب إليه كعلمها بالطبيعة وأحوالها وعوارضها وصحَّتها وفسادها وحركاتها.

وهذا يتبيَّن بالوجه السابع والسبعين: وهو أنَّ شرفَ العلم تابعٌ لشرف معلومه، ولوثوق النفس بأدلَّة وجوده وبراهينه، ولشدَّة الحاجة إلى معرفته، وعِظَم النفع بها.


(١) (د، ت، ق): «شرا من الدواب».
(٢) عجزُ بيتٍ للمتنبي، في «ديوانه» (١٤٩)، وصدرُه:
* من يهن يسهل الهوانُ عليه *