ومن سلك ذلك المسلكَ الباطل لم يُمْكِنْه أن يستدلَّ على صحَّة نبوَّته بنفس دعوته ودينه، ومعلومٌ أنَّ نفسَ الدِّين الذي جاء به والملَّة التي دعا إليها مِنْ أعظم براهين صدقه وشواهد نبوَّته، ومن لم يُثْبِت لذلك صفاتٍ وجوديةً أوجَبَت حُسْنَه وقبول العقول له، ولضدِّه صفاتٍ أوجَبَت قُبْحَه ونفور العقول عنه= فقد سَدَّ على نفسه بابَ الاستدلال بنفس الدَّعوة، وجعلها مُسْتَدَلًّا عليه فقط.
* ومما يدلُّ على صحَّة ذلك قولُه تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، فهذا صريحٌ في أنَّ الحلال كان طيِّبًا قبل حِلِّه، وأنَّ الخبيثَ كان خبيثًا قبل تحريمه، ولم يُسْتَفد طِيبُ هذا وخُبثُ هذا من نفس الحِلِّ والتَّحريم؛ لوجهين اثنين:
أحدهما: أنَّ هذا عَلَمٌ من أعلام نبوَّته التي احتجَّ الله بها على أهل الكتاب، فقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[الأعراف: ١٥٧].
فلو كان الطِّيبُ والخُبْثُ (١) إنما استُفِيد من التَّحريم والتَّحليل لم يكن في ذلك دليل، فإنه بمنزلة أن يقال: يُحِلُّ لهم ما يُحِلُّ، ويُحَرِّمُ عليهم ما يُحَرِّم. وهذا أيضًا باطل؛ فإنه لا فائدة فيه، وهو الوجه الثَّاني.
فثبت أنه أحلَّ ما هو طيِّبٌ في نفسه قبل الحِلِّ، فكساهُ بإحلاله طِيبًا آخر، فصار منشأُ طِيبه من الوجهين معًا.