للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ونازعهم في ذلك طائفةٌ أخرى، وقالوا: مبدأ هذه الحواسِّ إنما هو الدِّماغ، وأنكروا أن يكون بين القلب والعين والأذن والأنف أعصابٌ أو عُروق، وقالوا: هذا كذبٌ على الخِلْقَة.

والصوابُ التوسُّطُ بين الفريقين، وهو أنَّ القلب ينبعثُ منه قوَّةٌ إلى هذه الحواسِّ، وهي قوَّةٌ معنويةٌ لا تحتاجُ في وصولها إليها إلى مَجَارٍ مخصوصةٍ وأعصابٍ تكونُ حاملةً لها؛ فإنَّ وصول القُوى إلى هذه الحواسِّ والأعضاء لا تتوقَّفُ إلا على قبولها واستعدادها وإمداد القلب، لا على مَجَارٍ وأعصاب.

وبهذا يزولُ الالتباسُ في هذا المقام الذي طال فيه الكلام، وكَثُر فيه النزاعُ والخصام، والله أعلم، وبه التوفيقُ للصَّواب.

والمقصودُ التنبيهُ على أقلِّ القليل من وجوه الحكمة التي في خَلْقِ الإنسان، والأمرُ أضعافُ أضعاف (١) ما يخطرُ بالبال، أو يجري في المقال، وإنما فائدةُ ذكر هذه الشَّذْرَة ــ التي هي كَلا شيءٍ بالنسبة إلى ما وراءها ــ التنبيه.

وإذا نظر العبدُ إلى غذائه فقط، في مَدْخَله ومستقرِّه ومخرجه، رأى فيه العِبَر والعجائب؛ كيف جُعِلَت له آلةٌ يتناولُه بها، ثم بابٌ يَدْخُل منه، ثمَّ آلةٌ تقطِّعُه صغارًا، ثمَّ طاحونٌ يطحنُه، ثمَّ أُعِينَ بماءٍ يعجنُه، ثمَّ جُعِل له مجرًى وطريقٌ إلى جانب مجرى النَّفَس، ينزلُ هذا ويصعدُ هذا، فلا يلتقيان مع غاية القُرب.

ثمَّ جَعَل له حوايا (٢) وطرقًا تُوصِلُه إلى المعدة، فهي خِزانتُه وموضعُ


(١) ليست في (ح، ق، ت).
(٢) يريد: المريء. والحوايا: الأمعاء. «اللسان» (حوا).