وأمَّا قولُ أهل الجنة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف: ٤٣]، فيحتملُ أن يكونوا أرادوا الهدايةَ إلى طريق الجنة، وأن يكونوا أرادوا الهدايةَ في الدنيا التي أوصلتهم إلى دار النعيم. ولو قيل: إنَّ كلا الأمرين مرادٌ لهم، وأنهم حمدوا اللهَ على هدايته لهم في الدنيا، وهدايتهم إلى طريق الجنة؛ كان أحسنَ وأبلغ.
وقد ضربَ الله تعالى لمن لم يحصُل له العلمُ بالحقِّ واتباعه مثَلًا مطابقًا لحاله؛ فقال تعالى:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام: ٧١].
الوجه السادس والسبعون: أنَّ فضيلةَ الشيء وشرفه يظهرُ تارةً من عموم منفعته، وتارةً من شدَّة الحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه، وتارةً من ظهور النقص والشرِّ بفَقْدِه، وتارةً من حصول اللذَّة والسرور والبهجة بوجوده ــ لكونه محبوبًا ملائمًا، فإدراكُه يُعْقِبُ غايةَ اللذَّة ــ، وتارةً من كمال الثمرة المترتِّبة عليه، وشرف علَّته الغائيَّة (١)، وإفضائه إلى أجلِّ المطالب.
وهذه الوجوه ونحوها تنشأ وتظهرُ من متعلَّقه؛ فإذا كان في نفسه كمالًا وشرفًا ــ بقطع النظر عن متعلَّقاته ــ جمعَ جهات الشرف والفضل في نفسه ومتعلَّقه.