للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولما عُرِّبت كتبُ الفلاسفة صار كثيرٌ من النَّاس إذا رأى أقوال المتكلِّمين الضعيفة، وقد قالوا: إنَّ هذا هو الذي جاء به الرسول= قَطَع القنطرةَ وعدَّى (١) إلى ذلك البرِّ (٢)، وكلُّ هذا من الجهل القبيح والظَّنِّ الفاسد أنَّ الحقَّ لا يخرجُ عن أقوالهم، فما أكثر خروجَ الحقِّ عن أقوالهم! وما أكثر ما يذهبون في المسائل التي هي حقٌّ وصوابٌ (٣) إلى خلاف الصَّواب!

والمقصودُ أنَّ المتكلِّمين لو أجمعوا على شيءٍ لم يكن إجماعُهم حجَّةً عند أحدٍ من العلماء، فكيف إذا اختلفوا؟!

والمقصودُ أنَّ مشاهدة حكمة الله في أقضيته وأقداره التي يُجْرِيها على عباده باختياراتهم وإراداتهم هي من ألطف ما تكلَّم فيه النَّاسُ وأدقِّه وأغمضِه، وفي ذلك حِكَمٌ لا يعلمها إلا الحكيمُ العليمُ سبحانه، ونحن نشيرُ إلى بعضها:

فمنها: أنه سبحانه يحبُّ التَّوابين، حتى إنَّ مِنْ محبَّته لهم أنه يفرحُ بتوبة أحدهم أعظمَ من فرح الواجد (٤) لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض الدَّوِّيَّة المَهْلَكة (٥) إذا فقدها وأيِسَ منها (٦)، وليس في أنواع الفرح


(١) (ح): «فقطع القنطرة وعبر».
(٢) أي: صار إلى قول الفلاسفة وكتبهم.
(٣) (ح): «الحق والصواب».
(٤) (ت، ن، ق): «الواحد».
(٥) الدوية: الفلاة الواسعة. وهي المهلكة؛ لأن الأرواح تهلك فيها.
(٦) انظر ما تقدم (ص: ١٨).