للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الغالب ــ فيبقى الآخرُ للتنفُّس، وإمَّا أن يجري فيهما فينقسم، فلا ينسدَّ الأنفُ جملةً، بل يبقى فيه مدخلٌ (١) للنَّفَس.

وأيضًا؛ فإنه لما كان عضوًا واحدًا وحاسَّةً واحدة، ولم يكن عُضوَين وحاسَّتين كالأذنين والعينين التي اقتضت الحكمةُ تعدُّدهما، فإنه ربَّما أصيبت إحداهما أو عَرَضت لها آفةٌ تمنعها من كمالها فتكونُ الأخرى سالمة، فلا تتعطَّل منفعةُ هذا الجنس جملة، وكان وجودُ أنفَين في الوجه شَينًا ظاهرًا، فنَصَب فيه أنفًا واحدًا، وجَعَل فيه منفذَين حَجَز بينهما بحاجزٍ يجري مجرى تعدُّد العينين والأذنين في المنفعة، وهو واحد؛ فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين.

وشقَّ سبحانه للعبد الفمَ في أحسن موضعٍ وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذَّوق والكلام وآلات الطَّحن والقَطع ما تبهرُ العقولَ عجائبُه؛ فأودَعه اللسانَ الذي هو أحدُ آياته الدَّالَّة عليه، وجعله ترجمانًا لمَلِك الأعضاء مُبِينًا مؤديًا عنه كما جعل الأذنَ رسولًا مؤديًا مبلِّغًا إليه، فهي رسولُه وبريدُه الذي يؤدِّي إليه الأخبار، واللسانُ بريدُه ورسولُه الذي يؤدِّي عنه ما يريد.

واقتضت حكمتُه سبحانه أنْ جَعَل هذا الرسولَ مَصُونًا محفوظًا مستورًا، غير بارزٍ مكشوفٍ كالأذن والعين والأنف؛ لأنَّ تلك الأعضاء لما كانت تؤدِّي من الخارج إليه جُعِلَت بارزةً ظاهرة، ولما كان اللسانُ مؤديًا منه إلى الخارج جُعِل مستورًا (٢) مصونًا؛ لعدم الفائدة في إبرازه؛ لأنه لا يأخذُ


(١) (ت): «منفذ».
(٢) (ح، ن): «سترا». (ت): «منه جعله مستورا». وسقطت «جعل» من (ق).