للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثمَّ تأمَّل هذه العصافيرَ كيف تطلُب أكلَها بالنَّهار كلِّه، فلا هي تفقدُه ولا هي تجدُه مجموعًا مُعَدًّا، بل تنالُه بالحركة والطلب في الجهات والنَّواحي، فسبحان الذي قدَّره ويسَّره، كيف لم يجعله مما يتعذَّرُ عليها إذا التمسَته، ولا مما يفُوتها إذا قعدَت عنه، وجعلها قادرةً عليه في كلِّ حينٍ وأوان، وبكلِّ أرضٍ ومكان، حتى من الجدران والأسطحة والسُّقوف، تنالُه بالهُوَينا من السَّعي، فلا يشاركُها فيه غيرُ بني جنسها من الطير.

ولو كان ما تقتاتُ به يوجدُ مُعَدًّا مجموعًا كلُّه كانت الطيرُ تَشْرَكُها فيه وتغلبُها عليه (١). ولحكمة (٢) أخرى بديعة؛ وذلك (٣) أنها لو وجدَته مُعَدًّا مجموعًا لأكبَّت عليه بحرص الرَّغبة فلا تقلعُ (٤) عنه وإن شبعَت حتى تَبْشَم وتهلك.

وكذلك الناسُ لو جُعِل طعامُهم مُعَدًّا لهم بغير سعيٍ ولا تعبٍ لأخرجهم وُجدانُهم له كذلك (٥) إلى الشَّره والبِطْنة والبَرَدة (٦)، ولكثُر الفسادُ وعمَّت الفواحش، ولبغَوا في الأرض.

فسبحان اللطيف الخبير الذي لم يخلق شيئًا سدًى ولا عبثًا.


(١) (ح، ن): «كانت يشركها فيه ويغلبها عليه».
(٢) (ت، ق، د): «وبحكمة». (ح، ن): «وحكمة». والمثبت أقوم.
(٣) (د، ق، ت): «وكذلك».
(٤) (ض): «تنقلع».
(٥) (ح، ن): «ولا تعب أدى ذلك».
(٦) مهملة في (ق). (ت، د): «والرده». وعلق ابن بردس في طرة (د): «لعلها: والبرده». وليست في (ح، ن). والبَرَدة: التُّخمة وثقل الطعام على المعدة. سمِّيت بذلك لأنها تبرد المعدة فلا تستمرئ الطعام. «النهاية» (برد).