للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويا للعقول التي قد خُسِف بها! أيُّ حقٍّ للعبد على الرَّبِّ حتى يمتنع من قبول مِنَّته عليه؟! فبأيِّ حقٍّ استحقَّ الإنعامَ عليه بالإيجاد، وكمال الخِلقة، وحُسْن الصُّورة، وقوام البِنية، وإعطائه القُوى والمنافع والآلات والأعضاء، وتسخير ما في السَّموات وما في الأرض له؟!

ومِنْ أقلِّ ما له عليه من النِّعم التنفُّسُ في الهواء الذي لا يكادُ يخطُر بباله أنه من النِّعم، وهو في اليوم والليلة أربعةٌ وعشرون ألف نفَس، فإذا كانت أقلَّ نِعَمه عليهم ــ ولا أقلَّ منها ــ أربعةٌ وعشرون ألف نعمةٍ كلَّ يومٍ وليلة، فما الظَّنُّ بما هو أجلُّ منها من النِّعم؟!

فيا للعقول السَّخيفة المخسوف بها! أيُّ علمٍ لكم (١) وأيُّ سعيٍ يقابلُ القليلَ من نِعَمه الدُّنيويَّة حتى لا يبقى لله عليكم منَّةٌ إذا أثابكم، لأنكم استوفيتم ديونكم قِبَله ولا نعمة له عليكم فيها؟!

فأيُّ أمَّةٍ من الأمم بلغ جهلُها بالله هذا المبلغ، واستنكفَت عن قبول مِنَّته، وزعمَت أنَّ لها الحقَّ على ربها، وأنَّ تفضُّلَه عليها ومِنَّتَه مكدِّرٌ لالتذاذها بعطائه؟!

ولو أنَّ العبدَ استعمل هذا الأدبَ مع ملكٍ من ملوك الدُّنيا لمَقَته وأبعَده وسَقط من عينِه، مع أنه لا نعمة له عليه في الحقيقة، إنما المنعِمُ في الحقيقة هو الله وليُّ النِّعم ومُولِيها.

ولقد كشَف القومُ عن أقبح عورةٍ من عورات الجهل بهذا الرَّأي السَّخيف والمذهب القبيح، والحمدُ لله الذي عافانا مما ابتلى به أربابَ هذا المذهب، المستنكِفين من قبول مِنَّة الله، الزَّاعمين أنَّ ما أنعم الله به عليهم


(١) كذا في الأصول. ولعل الصواب: أيُّ عمل لكم.