للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهكذا الروحُ إذا عدمت كمالها وصلاحَها من معرفة فاطرها وبارئها، وكَوْنه أحبَّ شيءٍ إليها، ورضاه وابتغاء الوسيلة إليه آثرُ شيءٍ عندها، حتَّى يكونُ اهتمامُها بمحبته ومرضاته اهتمامَ المُحِبِّ التَّامِّ المحبة بمرضاة محبوبه الذي لا يجدُ منه عوضًا= كانت بمنزلة المَلك الذي ذهب منه مُلكه، وأصبحَ أسيرًا في أيدي أعاديه يسومونه سوءَ العذاب.

وهذا الألمُ كامنٌ في النَّفس، لكن يسترُه سُكْرُ الشَّهوات، ويواريه حجابُ الغفلة، حتَّى إذا كُشِفَ الغطاء، وحِيلَ بين العبد وبين ما يشتهي، وجَد حقيقةَ ذلك الألم، وذاق طعمَه، وتجرَّد ألمُه عمَّا يحجبُه ويواريه.

وهذا أمرٌ يُدْرَكُ بالعِيان والتَّجربة في هذه الدَّار؛ تكون الأسبابُ المؤلمةُ للرُّوح والبدن موجودةً مقتضية لآثارها، ولكن يقومُ للقلب مِن فرحه بحظٍّ ناله من مالٍ أو جاهٍ أو وِصَالِ حبيبٍ ما يواري عنه شُهودَ الألم، وربَّما لا يشعُر به أصلًا، فإذا زال المُعارِضُ (١) ذاق طعمَ الألم، ووجَد مسَّه، ومن اعتبر أحوالَ نفسه وغيره عَلِمَ ذلك.

فإذا كان هذا في هذه الدَّار، فما الظَّنُّ عند المفارقة والفِطام عن الدُّنيا، والانتقال إلى الله والمصير إليه؟!

فليتأمَّل العاقلُ الفَطِنُ النَّاصحُ لنفسه هذا الموضعَ حقَّ التَّأمُّل، ولْيَشْغَل به محلَّ أفكاره (٢)، فإن فَهِمَه وعَقَله واستمرَّ إعراضُه:


(١) (ت): «العارض».
(٢) (ط): «كل أفكاره». وفي (ق): «وليشعل» بالمهملة.