للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بل كيف لم يَحْثُ الترابَ في وجهه ويسبَّه؟!؛ لأنَّ إبليس ليس كان يكون بهذا الكلام مُغْوِيًا له، إنما كان يكون زاريًا عليه (١)؛ لأنه إنما وعده على معصية ربه بما كان فيه لا زائدًا عنه، ومثلُ هذا لا يخاطَبُ به إلا المَجانين الذين لا يعقِلون؛ لأنَّ العِوَض الذي وعَده به بمعصية ربه قد كان أحرزه، وهو الخلدُ والمُلْكُ الذي لا يبلى.

ولم يخبر اللهُ آدمَ إذ أسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين، ولو كان فيها من الخالدين لما رَكَنَ إلى قول إبليس، ولا قَبِلَ نصيحتَه، ولكنه لما كان في غير دار خلودٍ غَرَّه بما أطمَعه فيه من الخُلد، فقَبِل منه، ولو أخبر اللهُ آدمَ أنه في دار الخُلد ثمَّ شكَّ في خبر ربه لسمَّاه كافرًا، ولما سمَّاه عاصيًا؛ لأن من شكَّ في خبر الله فهو كافر، ومن فعَل غيرَ ما أمره الله به وهو معتقدٌ للتصديق لخبر ربه فهو عاصٍ، وإنما سمَّى اللهُ آدمَ عاصيًا ولم يسمِّه كافرًا.

قالوا: فإن كان آدمُ أُسكِن جنة الخُلد، وهي دارُ القُدس التي لا يدخلها إلا طاهرٌ مقدَّس؛ فكيف توصَّل إليها إبليسُ الرجسُ النجسُ الملعونُ المذمومُ المدحور حتى فَتَنَ فيها آدم؟!

وإبليسُ فاسقٌ قد فسق عن أمر ربه، وليست جنةُ الخلد دارَ الفاسقين، ولا يدخلها فاسقٌ بتَّةً، إنما هي دارُ المتقين، وإبليس غيرُ تقيٍّ، فبعد أن قيل له: اهبِط (٢) منها فما يكونُ لك أن تتكبَّر فيها، أيُفْسَحُ له (٣) أن يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط والإبعاد له بالعُتُوِّ والاستكبار؟!


(١) أي: عائبًا محتقرًا له، مستخفًّا به.
(٢) كذا في الأصول، على سبيل الاستشهاد، لا التلاوة.
(٣) (ق): "انفسح له".