للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أنهم ليسوا كهيئته في الوصال، فإنهم إذا واصلوا تضرَّروا بذلك، وأمَّا هو - صلى الله عليه وسلم - فإنه إذا واصلَ لا يتضررُ بالوصال. فلو كان يأكلُ ويشربُ لكان الجواب: «وأنا أيضًا لا أواصل، بل آكلُ وأشربُ كما تأكلون وتشربون»، فلمَّا قرَّرهم على قولهم: إنك تواصل، ولم ينكره عليهم، دلَّ على أنه كان مواصلًا، وأنه لم يكن يأكلُ أكلًا وشربًا يُفَطِّرُ الصَّائم.

الثالث: أنه لو كان أكلًا وشربًا يُفَطِّرُ الصَّائمَ لم يصحَّ الجوابُ بالفارق بينهم وبينه، فإنه حينئذٍ يكون - صلى الله عليه وسلم - هو وهم مشتركون (١) في عدم الوصال، فكيف يصحُّ الجوابُ بقوله: «لستُ كهيئتكم»؟!

وهذا أمرٌ يعلمُه غالبُ الناس، أنَّ القلبَ متى حصلَ له ما يُفْرِحُه ويسرُّه من نيل مطلوبه، ووصال حبيبه، أو ما يغمُّه ويسوؤه ويحزنُه، شُغِل عن الطعام والشراب، حتى إنَّ كثيرًا من العشَّاق تمرُّ به الأيامُ لا يأكلُ شيئًا، ولا تطلبُ نفسه أكلًا.

وقد أفصح القائلُ في هذا المعنى:

لها أحاديثُ مِنْ ذكراكَ تَشْغَلُها ... عن الشَّرابِ وتُلْهِيها عن الزَّادِ

لها بوجهكَ نورٌ تستضيءُ به ... ومِنْ حديثك في أعقابها حادِي

إذا اشْتكَتْ مِنْ كَلالِ السَّيْرِ أوعدها ... رَوْحَ القُدومِ فتحيا عند ميعادِ (٢)


(١) كذا في الأصول، بالرفع. والجادة النصب.
(٢) الأول والثاني: لإدريس بن أبي حفصة، يَذْكُر إبلًا، في «ديوان المعاني» (١/ ١٩١)، و «الأنوار» (١/ ٤٠٠)، و «الحماسة البصرية» (١/ ١٥٧)، و «زهر الآداب» (١/ ٥٠٧). والثالث: أنشده الغزالي في «رسالة الطير» (٧٢ - مقالات فلسفية نشرها لويس شيخو»، وأنشده إسماعيل بن إبراهيم المعرِّي في «ذيل مرآة الزمان» لليونيني (٣/ ٤٣).