للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غَرَس في أطراف تلك الأجفان الأهدابَ جمالًا وزينة، ولمنافع أُخَر وراء الجمال والزِّينة، ثمَّ أودعهما ذلك النُّورَ الباصرَ والضوءَ الباهرَ الذي يَخْرقُ ما بين السماء والأرض، ثمَّ يخرقُ السماء مجاوزًا لرؤية ما فوقها من الكواكب. وقد أودعَ سبحانه هذا السرَّ العجيبَ في هذا المقدار الصَّغير بحيث تنطبِعُ فيه صورةُ السَّموات مع اتساع أكنافِها وتباعُد أقطارها.

وشَقَّ له السَّمع، وخلق الأذنَ أحسنَ خِلقةٍ وأبلغَها في حصول المقصود منها، فجعلها مجوَّفةً كالصَّدفة؛ لتجمعَ الصَّوتَ فتؤدِّيه إلى الصِّماخ (١)، وليُحِسَّ بدبيب الحيوان فيها فيبادر إلى إخراجه، وجَعَل فيها غُضونًا وتجاويفَ واعوجاجاتٍ تمسكُ الهواءَ والصَّوتَ الدَّاخل فتكسرُ حِدَّته ثم تؤدِّيه إلى الصِّماخ.

ومن حكمة ذلك أيضًا: أن يُطَوَّل به الطريقُ على الحيوان، فلا يَصِلُ إلى الصِّماخ حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه. وفيه ــ أيضًا ــ حِكَمٌ غيرُ ذلك.

ثمَّ اقتضت حكمةُ الربِّ الخالق سبحانه أنْ جَعَل ماء الأذن مرًّا في غاية المَرارة، فلا يجاوزُه الحيوانُ ولا يقطعُه داخلًا إلى باطن الأذن، بل إذا وصل إليه أعمَل الحيلةَ في رجوعه، وجَعَل ماء العَين مِلْحًا (٢) ليحفظها؛ فإنها شَحْمةٌ قابلةٌ للفساد، فكانت ملوحةُ مائها صيانةً لها وحفظًا، وجَعَل ماء الفم عَذبًا حُلوًا ليُدرِك به طُعومَ الأشياء على ما هي عليه؛ إذ لو كان على غير هذه الصِّفة لأحالها إلى طبيعته، كما أنَّ مَنْ عَرَض لفمه المرارةُ استمرَّ طعمَ الأشياء التي ليست بمُرَّة، كما قيل:


(١) الصِّماخ: خَرقُ الأذن الباطنُ الذي يفضي إلى الرأس. «اللسان» (صمخ).
(٢) (د، ق، ت): «مالحا». والمثبت أفصح.