للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقالت طائفة: إنما كان الدِّماغُ باردًا لتبريد الحرارة التي في القلب؛ ليردَّها عن الإفراط إلى الاعتدال.

وردَّت طائفةٌ هذا (١)، وقالت: لو كان كذلك لم يكن الدِّماغُ بعيدًا عن القلب، بل كان ينبغي أن يحيط به كالرِّئة، أو يكون قريبًا منه في الصَّدر؛ ليكسِرَ حرارتَه.

قالت الفرقةُ الأولى: بُعْدُ الدِّماغ من القلب لا يمنعُ ما ذكرناه من الحكمة؛ لأنه لو قَرُبَ منه لغلبَته حرارةُ القلب بقوَّتها، فجُعِلَ البُعدُ بينهما بحيثُ لا يتفاسَدان، وتعتدل (٢) كيفيةُ كلِّ واحدٍ منهما بكيفية الآخر، وهذا بخلاف الرِّئة، فإنها آلةٌ للتَّرويح على القلب لم تُجْعَل لتعديل حرارته.

وتوسَّطت فرقةٌ أخرى وقالت: بل المخُّ حارٌّ لكنه فاترُ الحرارة، وفيه تبريدٌ بالخاصيَّة، فإنه مبدأٌ للذهن، ولهذا كان الذِّهنُ يحتاجُ إلى موضعٍ ساكنٍ قارٍّ، صافٍ عن الأقذاء (٣) والكَدَر، خالٍ من الجَلَبة والزَّجَل (٤).

ولذلك تكونُ جودةُ الفِكْر والتذكُّرُ واستخراجُ الصَّواب عند سكون البدن، وفُتور حركاته، وقلَّة شواغله ومزعجاته، ولذلك لم يصلُح لها القلب، وكان الدِّماغُ معتدلًا في ذلك صالحًا له.

ولذلك تجودُ هذه الأفعالُ في الليل، وفي المواضع الخالية، وتفسُد


(١) (ت): «هذا القول».
(٢) (ت): «وتعدل».
(٣) (ح): «الأقذار».
(٤) وهو رفع الصوت. وفي (د، ق، ت): «والدخل»، تحريف.