للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الضَّرَّاء (١)؟!

فمن الذي أجرى إليك من دم الأمِّ ما يَغْذُوك كما يَغْذو الماءُ النَّباتَ، وقَلَبَ ذلك الدَّمَ لبنًا، ولم يزل يغذِّيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسُّب والطَّلب؟!

حتى إذا كَمُلَ خَلقُك (٢) واستحكم، وقَوِي أديمُك على مباشرة الهواء وبصرُك على ملاقاة الضياء، وصَلُبت عظامُك على مباشرة الأيدي والتقلُّب على الغَبراء= هاجَ الطَّلقُ بأمِّك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاجٍ إلى عالم الابتلاء، فرَكَضَك الرَّحمُ ركضةَ من كأنه لم يضمَّك قطُّ (٣)، ولم يَشْتَمِل عليك!

فيا بُعْدَ ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وُضِعْتَ نطفةً وبين هذا الدَّفع والطَّرد والإخراج! وكان مبتهجًا بحَمْلك فصار يستغيثُ ويَعُجُّ إلى ربِّك مِنْ ثِقَلك.

فمن الذي فتحَ لك بابَه حتى وَلجتَ، ثمَّ ضمَّه عليك حتى حُفِظتَ وكمُلت، ثمَّ فتحَ لك ذلك البابَ ووسَّعه حتى خرجتَ منه كلمح البصر، لم يخنُقك (٤) ضِيقُه، ولم تحبسك صعوبةُ طريقك فيه؟!

فلو تأمَّلتَ حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهبَ بك


(١) (ح، ن): «الضرر عنك».
(٢) (ن): «سوى خلقك».
(٣) (ح، ن): «ركضة في مكان (ن: مكانه) كأنه لم يضمك قط».
(٤) (ن): «يخفيك». (ح): «يحفيك».