للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويعيد عليه ما لا حياة له بدونه= عَلِم أنه موضعٌ لما أُهِّل له، فردَّ عليه أحوجَ ما هو إليه، فعظُمت به فرحتُه، وكمُلت به لذَّتُه، وتمَّت به نعمتُه (١)، واتصل به سرورُه، وعَلِم حينئذٍ مقدارَه، فعَضَّ عليه بالنَّواجذ، وثنى عليه الخناصر، وكان حالُه كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض المَهْلَكة إذا وجدها بعد معاينة الهلاك؛ فما أعظم موقع ذلك الوِجْدان عنده!

ولله أسرارٌ وحِكَمٌ ومنبِّهاتٌ وتعريفاتٌ لا تنالها عقولُ البشر.

فقُل لغليظِ القلب ويحكَ ليسَ ذا ... بِعُشِّكَ فادْرُجْ طالبًا عُشَّكَ البالي

ولا تكُ ممَّن مَدَّ باعًا إلى جَنًى ... فقَصَّرَ عنه قال ذا ليسَ بالحالي (٢)

فالعبدُ إذا بُلي بعد الأُنس بشيءٍ من الوَحْشة، وبعد القُرب صَلِي بنار البِعاد (٣)، اشتاقت نفسُه إلى لذَّة تلك المعاملة، فحنَّت وأنَّت وتضرَّعت (٤) وتعرَّضت لنفحات من ليس لها منه عِوَضٌ أبدًا، ولا سيَّما إذا تذكَّرت برَّه ولطفه وحنانه وقُربه؛ فإنَّ هذه الذكرى تمنعُها القرار وتهيِّجُ منها البلابل (٥)، كما قال القائل ــ وقد فاته طوافُ الوداع، فركب الأخطار ورجع إليه ــ:

ولما تذكَّرتُ المنازلَ بالحِمى ... ولم يُقْضَ لي تسليمةُ المتزَوِّد

تيقَّنتُ أنَّ العَيْشَ ليس بنافعي ... إذا أنا لم أنظُر إليها بموعدِ (٦)


(١) «وتمت به نعمته» ليست في (ح، ن).
(٢) أي: ليس بالحلو. والبيتان أشبه بنظم المصنف.
(٣) (ن، ح): «بعد الأنس بالوحشة وبعد القرب بنار البعاد».
(٤) (ن، ح): «وتصدعت».
(٥) وهي الهموم والوساوس في الصدر. «اللسان» (بلل).
(٦) البيت الأول في «الموازنة» (٢/ ٤٧)، و «شرح نهج البلاغة» (٨/ ١٢٨) للعلوي البصري صاحب الزنج، وفي «ذيل الأمالي» (١٢٠) من إنشاد الزبير بن بكار لبعض البصريين القشيريين، و «التذكرة الحمدونية» (٦/ ٦٠) لبعض بني قشير، وأنشده ثعلب من أبياتٍ في «المحب والمحبوب» (٢/ ٨١).
قال شيخنا الإصلاحي: وجواب (لما) في الأبيات المرويَّة: زفرتُ إليها زفرةً ... ، وهنا: تيقنتُ ... ؛ فالظاهر أن بعضهم ضمَّن البيت القديم في شعره.