للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهِ وَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّ ذَلِكَ تَأَهُّبٌ وَتَنَظُّفٌ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَيَعْمَلُ عَلَى يَقِينٍ بِذَلِكَ وَتَحَفُّظٍ فِيهِ فَإِنَّ تَمَامَ كُلِّ عَمَلٍ بِحُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ.

ــ

[الفواكه الدواني]

وَلَا سُمْعَةٍ وَلَهُ مَرَاتِبُ ثَلَاثٍ: دُنْيَا، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ أَوْ خَوْفًا مِنْ نَارِهِ، وَوُسْطَى وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ لِكَوْنِهِ عَبْدًا مَمْلُوكًا لِلَّهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ شَيْئًا، وَعُلْيَا وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ لِأَجْلِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ لَا طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَمِلَ عَلَى الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ لِتَقْيِيدِ قَوْلِهِ: يَعْمَلُ عَمَلَ الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ: (يَرْجُو تَقَبُّلَهُ) فَإِنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَعْمَلُ أَيْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْوُضُوءِ حَالَةَ كَوْنِهِ رَاجِيًا مِنْ اللَّهِ تَقَبُّلَهُ (وَ) رَاجِيًا (ثَوَابَهُ وَتَطْهِيرَهُ مِنْ الذُّنُوبِ بِهِ) أَيْ الْوُضُوءِ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ» وَالْخَبَرُ: «إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إلَيْهَا بِعَيْنِهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخَرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ تَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ» .

وَرَوَى مُسْلِمٌ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظَافِرِهِ» .

(وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ (يُشْعِرَ نَفْسَهُ) أَيْ يَعِظُهَا وَيُعَلِّمُهَا (أَنَّ ذَلِكَ) الْوُضُوءَ (تَأَهُّبًا) أَيْ اسْتِعْدَادًا (وَتَنَظُّفًا) أَيْ تَطَهُّرًا مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالذُّنُوبِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَصَبِ تَأَهُّبًا وَتَنَظُّفًا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ الْمُصَنِّفِ، وَرُوِيَ تَأَهُّبٌ وَتَنَظُّفٌ بِالرَّفْعِ وَلَا إشْكَالَ فِيهَا وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي رِوَايَةِ النَّصْبِ مَعَ وُجُوبِ رَفْعِ خَبَرِ أَنَّ، وَأُجِيبُ بِأَوْجُهٍ

أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: (لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ) وَتَأَهُّبًا وَتَنَظُّفًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنْ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي مُتَعَلَّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْوَاقِعِ خَبَرًا.

ثَانِيهَا: أَنَّ نَصْبَهُمَا عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِكَانَ الْمَحْذُوفَةِ وَجُمْلَةُ كَانَ مَعَ مَعْمُولَيْهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ إنَّ وَلِمُنَاجَاةِ صِلَةُ تَأَهُّبًا.

ثَالِثُهَا: أَنَّ نَصْبَهُمَا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَنْصِبُ بِأَنَّ الْجُزْأَيْنِ عَلَى حَدِّ: إنْ حُرَّاسَنَا أُسْدًا، وَلِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ يَتَنَازَعُهُ تَأَهُّبًا وَتَنَظُّفًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمُرَادُ بِمُنَاجَاةِ الْمُصَلِّي لِرَبِّهِ إخْلَاصُ قَلْبِهِ وَتَفْرِيغُ سِرِّهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ.

(وَ) لِأَجْلِ (الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعَالَى لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ) تَعَالَى (بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) فَإِذَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ الْإِجْلَالُ وَتَعْظِيمُ خَالِقِهِ. (فَيَعْمَلُ) الْوُضُوءَ (عَلَى يَقِينٍ) أَيْ إخْلَاصٍ (بِذَلِكَ) الْوُضُوءِ. (وَ) يَعْمَلُهُ عَلَى (تَحَفُّظٍ فِيهِ) أَيْ الْوُضُوءِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ. وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْمَلَ الْوُضُوءَ عَلَى الْإِخْلَاصِ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ تَمَامَ) أَيْ صِحَّةَ (كُلِّ عَمَلٍ) يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِخْلَاصُ (بِحُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ) وَحُسْنُهَا إنَّمَا يَكُونُ بِمُقَارَنَةٍ مِنْ الْإِخْلَاصِ لَا مُطْلَقِ الْقَصْدِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَقَعُ مِنْ الْمُرَائِي وَالْكَافِرِ.

وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ، فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ أَرَادَ النِّيَّةَ الصَّحِيحَةَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا وَهِيَ الْمُقَارِنَةُ لِلْإِخْلَاصِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا شَيْئَانِ فَسَّرَ النِّيَّةَ بِمُطْلَقِ الْقَصْدِ، وَالْإِخْلَاصُ إفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْعِبَادَةِ، فَعَلَى وَحِدَتِهِمَا تَكُونُ النِّيَّةُ رُوحَ الْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصُ رُوحَ النِّيَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَتِهِمَا لِلسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ

١ -

(تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: بَقِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ الْمُوَالَاةُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِأَفْعَالِ الْوُضُوءِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ مُتَفَاحِشٍ، لِأَنَّ الَّذِي عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ خَمْسُ فَرَائِضَ: غَسْلُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَالدَّلْكُ، وَلَعَلَّ عَدَمَ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ الْمُوَالَاةَ بِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهَا، لِأَنَّهُ قِيلَ بِسُنِّيَّتِهَا وَقِيلَ بِوُجُوبِهَا مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، فَعَلَى الْوُجُوبِ إنْ فَرَّقَ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا بَنَى اسْتِنَانًا فِيهِمَا وَإِنْ طَالَ لَكِنْ بِنِيَّةٍ مَعَ النِّسْيَانِ وَمَعَ الْبِنَاءِ فَعَلَ الْمَنْسِيَّ مَعَ مَا بَعْدَهُ وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ لِأَجْلِ التَّرْتِيبِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْمُوَالَاةِ يَصْدُقُ بِصُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَفْعَلَ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ وَيُتْرَكَ جَمِيعَ مَا بَعْدَهُ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَغْسِلَ وَجْهَهُ مَثَلًا وَيَنْسَى الْيَدَيْنِ وَيَمْسَحَ الرَّأْسَ وَيَغْسِلَ الرِّجْلَيْنِ، فَيُطْلَبُ مِنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى تَكْمِيلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَغْسِلُ الْيَدَيْنِ وَيُعِيدُ مَسْحَ الرَّأْسِ وَيَغْسِلُ الرِّجْلَيْنِ حَيْثُ كَانَ بِالْقُرْبِ لِأَجْلِ التَّرْتِيبِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى فِعْل الْمَنْسِيِّ بَعْدَ الطُّولِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُنَكِّسُ، وَإِنْ فَرَّقَ عَمْدًا أَوْ عَجْزًا بَنَى مَا لَمْ يَطُلْ، وَإِنْ طَالَ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَى الْبِنَاءِ الِاعْتِدَادُ بِمَا فَعَلَ وَالْإِتْيَانُ بَعْدُ بِالْمَتْرُوكِ، وَلَا يُقَالُ: الْعَاجِزُ لَا تَجِبُ الْمُوَالَاةُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَضَاهُ الْبِنَاءُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْعَاجِزُ مُقَصِّرٌ بِخِلَافِ النَّاسِي لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَاجِزِ مَنْ أَعَدَّ مِنْ الْمَاءِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَافٍ فَيَتَبَيَّنُ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي التَّحَفُّظِ مِمَّنْ أَرَاقَهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَاجِزِ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ الَّذِي

<<  <  ج: ص:  >  >>