اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلَاهُمْ بِهِ أَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً وَفِيمَا عِنْدَهُ رَغْبَةً
وَالْعِلْمُ دَلِيلٌ إلَى الْخَيْرَاتِ وَقَائِدٌ إلَيْهَا وَاللَّجَأُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَيْرِ الْقُرُونِ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ نَجَاةً فَفِي الْمَفْزَعِ إلَى ذَلِكَ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَمَا جَمِيعُ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْجِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ» .
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ طَلَبُ الْعِلْمِ» .
وَقَالَ أَيْضًا: «عَالِمٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» .
وَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩] وَالْمُرَادُ بِهِمْ الْعُلَمَاءُ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لِبَنِيهِ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ صِغَارَ قَوْمٍ فَسَتَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ.
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ تَعَلَّمْ الْعِلْمَ فَإِنْ احْتَجْت إلَيْهِ كَانَ لَك مَالًا، وَإِنْ اسْتَغْنَيْت عَنْهُ كَانَ لَك جَمَالًا.
وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ حَسَنَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْدَةِ وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ، وَمَنَارُ سَبِيلِ الْخَيْرِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً هُدَاةً يُهْتَدَى بِهِمْ أَدِلَّةً فِي الْخَيْرِ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ حَتَّى الْحِيتَانُ وَالْهَوَامُّ وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ» . وَفَضْلُ الْعِلْمِ مَشْهُورٌ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ فَفِي الْحَدِيثِ: «الْبَابُ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُلُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا» . وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «إذَا جَاءَ الْمَوْتُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ»
ثُمَّ بَيَّنَ أَفْضَلَ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إلَى) رِضَا (اللَّهِ) - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَوْلَاهُمْ بِهِ) أَيْ بِمَحَبَّتِهِ تَعَالَى وَخَبَرُ أَقْرَبَ الْوَاقِعُ مُبْتَدَأً (أَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً) أَيْ خَوْفًا (وَ) أَكْثَرُهُمْ (فِيمَا عِنْدَهُ رَغْبَةً) أَيْ رَجَاءً.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: أَفْهَمَ قَوْلُهُ: وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إلَى اللَّهِ أَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَتَفَاضَلُونَ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَرَاتِبِ جَارٍ حَتَّى فِي حَقِّ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ.
الثَّانِي: وَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ، فَفَضَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَمَالِكٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ، وَفَضَّلَ جَمَاعَةٌ كَالْقُشَيْرِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَعِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْأَوْلِيَاءَ الْعَارِفِينَ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ الْفُتُوحَاتِ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي الِاهْتِدَاءِ كَاسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَعَمُّ نَفْعًا وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِمَّا يُفْتَحُ بِهِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُتَعَدِّيَةَ تُقَدَّمُ مُرَاعَاتُهَا عَلَى الْقَاصِرَةِ، وَوَجْهُ الثَّانِي بِأَنَّ الْعُلُومَ الظَّاهِرَةَ قَدْ تَقْطَعُ طَرِيقَ اللَّهِ وَتَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنْ التَّحْقِيقِ، وَالِاتِّصَافِ بِعُلُومِ الْبَاطِنِ الْمُثْمِرَةِ لِلْخَشْيَةِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْآخِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْعُلَمَاءِ وَتَفْضِيلِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ الْوَاقِفِينَ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ لَا عُلَمَاءُ الدُّنْيَا الطَّالِبِينَ جَاهَهَا وَحُطَامَهَا، إذْ الْعِلْمُ حَقِيقَةً مَا أَوْرَثَ صَاحِبَهُ عَمَلًا وَخَشْيَةً وَإِلَّا كَانَ زِيَادَةَ وَبَالٍ وَخَيْبَةٍ عَلَى صَاحِبِهِ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ غَيْرَ الْعَامِلِ بِعِلْمِهِ أَوَّلُ مِنْ تُسَعَّرُ بِهِ النَّارُ» وَلَا يَتِمُّ عِلْمُ الْعَالِمِ حَتَّى يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَيُعْرِضَ عَمَّا يَصُدُّهُ عَنْ الْعَمَلِ لِخَالِقِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا فِي عج.
[الثَّمَرَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ]
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الثَّمَرَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: (وَالْعِلْمُ) النَّافِعُ لِصَاحِبِهِ (دَلِيلٌ إلَى) فِعْلِ (الْخَيْرَاتِ وَقَائِدٌ إلَيْهَا) أَيْ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ» .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَهَذَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْعِلْمِ، وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى حَيَوَانَاتُ الْمَاءِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرَاتِ مَا اسْتَنَدَ فَاعِلُهُ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَاللَّجَأُ) مُبْتَدَأٌ وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْجِيمِ أَيْ الِاسْتِنَادُ وَالرُّجُوعُ (إلَى كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَ) إلَى (سُنَّةِ نَبِيِّهِ وَ) إلَى (اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِجْمَاعُ.
(وَ) إلَى (خَيْرِ الْقُرُونِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ (مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) أَيْ أُظْهِرَتْ (لِلنَّاسِ) وَخَبَرُ اللَّجَأِ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً هُوَ (نَجَاةٌ) وَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَوْ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي عَمَلِ الْخَيْرَاتِ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا أَوْ عَلَى كَلَامِ إمَامِهِ إنْ كَانَ مُقَلِّدًا فِيهِ نَجَاةٌ أَيْ خَلَاصٌ مِنْ الْهَلَاكِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي لَمْ تَسْتَنِدْ إلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبَيَّنَ وَجْهَ كَوْنِ النَّجَاةِ فِي اللَّجَأِ إلَى مَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: (فَفِي الْمَفْزَعِ) أَيْ