عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ
وَلَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَمَا خَفَّ مِنْ الشِّعْرِ أَحْسَنُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ وَمِنْ الشَّغْلِ بِهِ
وَأُولَى الْعُلُومِ وَأَفْضَلُهَا وَأَقْرَبُهَا إلَى اللَّهِ عِلْمُ دِينِهِ وَشَرَائِعِهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَدَعَا إلَيْهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ وَالْفَهْمُ وَالتَّهَمُّمُ بِرِعَايَتِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ
وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ
وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إلَى
ــ
[الفواكه الدواني]
بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ يَكْشِفُ نَحْوَ ابْنِ سِيرِينَ عِنْدَمَا يُقَالُ لَهُ أَنَا رَأَيْت كَذَا، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِأُصُولِ التَّعْبِيرِ فَهَذَا حَرَامٌ، لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَأَوْصَافِ الرَّائِينَ فَعِلْمُهَا غَوِيصٌ يَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ مَعْرِفَةٍ بِالْمُنَاسَبَاتِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ سِيرِينَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَنَا رَأَيْت نَفْسِي أُؤَذِّنُ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ تَسْرِقُ وَتُقْطَعُ يَدُك، وَسَأَلَهُ آخَرُ وَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُ فَقَالَ لَهُ تَحُجُّ، فَوَجَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا فُسِّرَ لَهُ بِهِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: رَأَيْت هَذَا بِسِمَةٍ حَسَنَةٍ وَالْآخَرُ بِسِمَةٍ قَبِيحَةٍ، وَلَا تَخْرُجُ الرُّؤْيَا عَنْ مَعْنَاهَا وَلَوْ فُسِّرَتْ بِغَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. (وَلَا) يَجُوزُ لِلرَّائِي أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّعْبِيرَ أَنْ (يُعَبِّرَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ) كَائِنَةٌ (عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ) لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَلَعِبٌ بِالنُّبُوَّةِ، وَيَنْبَغِي إنْ ظَهَرَ لَهُ خَيْرٌ يَذْكُرُهُ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَكْرُوهٌ يَقُولُ خَيْرًا إنْ شَاءَ أَوْ يَصْمُتُ.
وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي الْإِنْشَادِ بَيَّنَ حُكْمَهُ فِي الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ) أَيْ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ شِعْرَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا إنْشَاؤُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ جَوَازُهُ، فَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
وَلَوْلَا الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي ... لَكُنْت الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إنْشَائِهِ كَمَا يَجُوزُ إنْشَادُهُ، فَلَا بَأْسَ فِي كَلَامِهِ لِلْإِبَاحَةِ لِمَا قِيلَ إنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَحْفَظُ أَلْفَ بَيْتٍ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» ، وَقَالَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
» وَأَيْضًا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْمُرُ حَسَّانًا بِالْإِنْشَادِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْإِنْشَادَ جَائِزٌ لَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْلَأَهُ شِعْرًا» فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ مَنْ حَرَّمَهُ مُطْلَقًا، نَعَمْ إنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَدْحِ مَنْ لَا يَجُوزُ مَدْحُهُ أَوْ ذَمِّ مَنْ لَا يُذَمُّ كَانَ حَرَامًا، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْشَادُ لَا يَسْلَمُ مُرْتَكِبُهُ مِنْ مُجَاوَزَةٍ فِي الْكَلَامِ قَالَ: (وَمَا خَفَّ مِنْ الشِّعْرِ أَحْسَنُ) أَيْ مَعَ كَوْنِ الْإِنْشَادِ مُبَاحًا لَا يَنْبَغِي الْإِكْثَارُ مِنْهُ لِقِلَّةِ سَلَامَةِ فَاعِلِهِ مِنْ التَّجَاوُزِ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ غَالِبَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُبَالَغَاتٍ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْأَشْعَارِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُونَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا فَهَذِهِ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَعَلُّمِهَا. (وَلَا يَنْبَغِي) أَيْ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ (أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِنْشَادِ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَلَا مِنْ الشَّغْلِ بِهِ) هَذَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَا طُلِبَ تَقْلِيلُهُ يُكْرَهُ تَكْثِيرُهُ، وَتَجُوزُ. شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إذَا كَانَ لَا يَرْتَكِبُ مُحَرَّمًا وَلَوْ بِذَمِّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ وَإِلَّا امْتَنَعَتْ شَهَادَتُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ مَكْرُوهٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ.
[أَفْضَلِ الْعُلُومِ]
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَفْضَلِ الْعُلُومِ بِقَوْلِهِ: (وَأَوْلَى الْعُلُومِ) بِالِاشْتِغَالِ بِهِ (وَأَفْضَلُهَا وَأَقْرَبُهَا إلَى اللَّهِ) تَعَالَى (عِلْمُ دِينِهِ) هَذَا خَبَرُ أَوْلَى الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً وَعَطْفُ أَفْضَلَ وَأَقْرَبَ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ دِينِ اللَّهِ هُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، وَيُسَمَّى بِعِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَبِعِلْمِ الْكَلَامِ وَبِعِلْمِ الصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَهَا وَأَقْرَبَهَا لِأَنَّهُ يُوَصِّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِ الْبَارِئِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَنْبِيَائِهِ، وَالْعِلْمُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ مَعْلُومِهِ، وَمَعْلُومُ عِلْمِ التَّوْحِيدِ هُوَ ذَاتُ الْبَارِئِ وَصِفَاتُهُ.
(وَ) عِلْمُ (شَرَائِعِهِ) وَبَيَّنَ عِلْمَ شَرَائِعِهِ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا أَمَرَ) الْمُكَلَّفَ (بِهِ) مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ (وَنَهَى عَنْهُ) مِنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ (وَ) الْمَأْمُورُ بِهِ مَا (دَعَا إلَيْهِ) تَعَالَى (وَحَضَّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى فِعْلِهِ وَذَلِكَ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ (فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ إنَّمَا هِيَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
(وَ) مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ (التَّفَقُّهُ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي عِلْمِ الدِّينِ وَالشَّرَائِعِ (وَالتَّفَهُّمُ فِيهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (وَالتَّهَمُّمُ) أَيْ الِاهْتِمَامُ (بِرِعَايَتِهِ) أَيْ حِفْظِهِ (وَالْعَمَلِ بِهِ) وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ إلَى عِلْمِ دِينِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّفَقُّهُ فِي عِلْمِ الشَّرَائِعِ مِنْ أَوْلَى الْعُلُومِ، لِأَنَّ الْقِيَامَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِ مَا يُرِيدُ الْعَمَلَ بِهِ، وَذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ الْعَمَلَ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ.
وَلَمَّا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَوْنِ عِلْمِ دِينِ اللَّهِ أَوْلَى الْعُلُومِ أَفْضَلِيَّةُ الْعِلْمِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ قَالَ: (وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ) لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا جَمِيعُ أَفْعَالِ الْبِرِّ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ،