للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الصَّحِيحِ.

وَمَنْ حَبَسَ دَارًا فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ.

إنْ حِيزَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ.

وَلَوْ كَانَتْ حَبْسًا عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ جَازَتْ

ــ

[الفواكه الدواني]

الْوَفَاةُ قَالَ: وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدَ مَوْتِي عَنْك، وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا مِنْك، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُك جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْت جَذَذْتِيهِ وَأَخْذَتَيْهِ لَكَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ مَالُ وَارِثٍ وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك وَأُخْتَاك فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

(تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا الْهِبَةَ بِغَيْرِ هِبَةِ الثَّوَابِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا كَالْبَيْعِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ حَوْزِهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْمَرَضَ بِالْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ مَرِضَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْحَوْزِ ثُمَّ صَحَّ صِحَّةً بَيِّنَةً فَإِنَّهَا تُحَازُ وَتَتِمُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الْفَلَسِ وَلَوْ بِإِحَاطَةِ الدُّيُونِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْفَلَسُ الْخَاصُّ وَهُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخَلْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ، وَلَا فَرْقَ فِي الدَّيْنِ الْمُحِيطِ بَيْنَ السَّابِقِ عَلَى الْهِبَةِ وَالْمُتَأَخِّرِ عَنْهَا.

الثَّانِي: يُسْتَثْنَى مِنْ بُطْلَانِ الْهِبَةِ بِعَدَمِ الْحَوْزِ قَبْلَ الْمَانِعِ الْهِبَةُ الَّتِي اسْتَصْحَبَهَا الْوَاهِبُ مَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَأَرْسَلَ بِهَا رَسُولًا، فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ وَلَا بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْمُعَيَّنِ إذَا كَانَ الْوَاهِبُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى الْهِبَةِ.

قَالَ خَلِيلٌ فِي مُبْطِلَاتِ الْهِبَةِ: أَوْ اسْتَصْحَبَ هَدِيَّةً أَوْ أَرْسَلَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ الْمُعَيَّنُ لَهَا إنْ لَمْ يُشْهِدْ.

وَفِي صَدَقَاتِ الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهَا: مَنْ بَعَثَ بِهَدِيَّةٍ أَوْ صِلَةٍ لِغَائِبٍ فَمَاتَ الْمُعْطِي أَوْ الْمُعْطَى لَهُ قَبْلَ وُصُولِهَا، فَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ حِينَ بَعَثَ بِهَا عَلَى إنْفَاذِهَا فَهِيَ لِلْمَبْعُوثِ إلَيْهِ أَوْ وَارِثِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا حِينَ بَعَثَ بِهَا فَهِيَ لِلَّذِي أَعْطَى أَوْ وَارِثِهِ، وَحُكْمُ مَنْ اسْتَصْحَبَ هَدِيَّةً مَعَهُ لِغَائِبٍ حُكْمُ مَنْ أَرْسَلَهَا فَعِنْدَ الْإِشْهَادِ لَا تَبْطُلُ وَبِدُونِهِ تَبْطُلُ.

وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْحَوْزِ ذَكَرَ حُكْمَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ) الْحُرُّ الَّذِي لَمْ تُقْصَدْ عَيْنُهُ لَمْ تَبْطُلْ الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ وَ (كَانَ لِوَرَثَتِهِ الْقِيَامُ فِيهَا عَلَى الْوَاهِبِ الصَّحِيحِ) لِأَنَّهَا صَارَتْ حَقًّا لَهُ، وَمَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلِوَارِثِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْوَاهِبَ بِالصَّحِيحِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ قَدْ مَرِضَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَلِسَ قَبْلَ حَوْزِهَا فَلَيْسَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ الطَّلَبُ بِهَا لِبُطْلَانِهَا بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ، وَقَيَّدْنَا الْمَوْهُوبَ لَهُ بِالْحُرِّ لِأَجْلِ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالْوَارِثِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ الرَّقِيقَ يَقْبِضُ سَيِّدُهُ مَا وُهِبَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: كَانَ لِوَارِثِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الرَّقِيقِ الْقِيَامُ بِهَا لَكَانَ أَشْمَلَ وَوَافَقَ لَفْظَ الْمُدَوَّنَةِ، فَقَدْ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ وُهِبَ لِحُرٍّ هِبَةٌ أَوْ عَبْدٌ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى مَاتَ فَلِوَرَثَةِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الْعَبْدِ قَبْضُهَا، وَهَذَا فِي الْهِبَةِ وَمِثْلُهَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا الْوَاجِبَةُ كَالْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ فَتَوَقَّفَ فِيهَا بَعْضُ الشُّيُوخِ هَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ أَمْ لَا؟ وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا الَّذِي لَمْ تُقْصَدْ عَيْنُهُ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ قَالَ: هَذِهِ هِبَةٌ لِفُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَلَا لِوَارِثِهِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا يَأْخُذُهَا الْوَارِثُ، فَإِنْ حَصَلَ التَّنَازُعُ فِي قَصْدِ عَيْنِهِ وَعَدَمِ قَصْدِهَا، فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ لِأَحَدِهِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَانْظُرْ أَيَّهُمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ.

[أَحْكَام الحبس]

وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ شَرَعَ فِي الْحُبُسِ لِأَنَّهُ عَقِبُهُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَيُرَادِفُهُ الْوَقْفُ مَصْدَرُ وَقَفَ الْمُجَرَّدُ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ، وَالرَّدِيئَةُ أَوْقَفَ عَكْسُ أَعْتَقَ وَعَتَقَ، وَسُمِّيَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَوْقُوفَةٌ وَمَحْبُوسَةٌ وَقَدْ مَرَّتْ حَقِيقَتُهُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي حُكْمِهِ، وَالصَّحِيحُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ بَلْ نَدْبُهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْسَنِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ حَبَسَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ دُورًا وَحَوَائِطَ، وَهُوَ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمْ يَحْبِسْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا عَلِمْت وَإِنَّمَا حَبَسَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَمُقَابِلُ الْجُمْهُورِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ حَيْثُ ذَهَبُوا إلَى مَنْعِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْوَاقِفِ وَهُوَ مِلْكٌ يُوَرَّثُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ أَوْ يُعَلِّقَهُ عَلَى مَوْتِهِ كَأَنْ يَقُولَ: إنْ مِتُّ فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَمْ يَنْهَضْ لَهُمْ دَلِيلًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَعْرِيفَهُ فِي صَدْرِ التَّرْجَمَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ أَرْكَانَهُ أَرْبَعَةٌ: الْوَاقِفُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَالْمَوْقُوفُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاقِفِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَوْ طَعَامًا أَوْ نَقْدًا عَلَى مَنْ يَتَسَلَّفُهُمَا أَوْ يَرُدُّ مِثْلَهُمَا أَوْ رَقِيقًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَنْفَعَةِ الْمَوْقُوفِ وَلَوْ لِلصَّرْفِ فِي مَصَالِحِهِ كَقَنْطَرَةٍ وَمَسْجِدٍ، وَالصِّيغَةُ وَهِيَ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى إعْطَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْبِيدُ وَإِلَّا التَّنْجِيزُ كَلَفْظِ حَبَسْت وَوَقَفْت مُطْلَقًا أَوْ تَصَدَّقْت إنْ قَارَنَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ كَقَوْلِهِ: هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ أَوْ يَغْتَلُّونَهُ أَوْ يَنْتَفِعُونَ بِذَاتِهِ بِالسُّكْنَى فِيهِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَجْهُولٍ مَحْصُورٍ كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى فُلَانٍ وَعَقِبِهِ وَنَسْلِهِ لِقِيَامِ التَّعْقِيبِ مَقَامَ الْقَيْدِ، وَيَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الذَّاتِ الْمَوْقُوفَةِ وَبَيْنَ النَّاسِ كَالْمَسْجِدِ يَبْنِيهِ وَيَفْتَحُهُ لِلنَّاسِ، وَكَالطَّاحُونِ أَوْ الْقَنْطَرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ عُمُومُ النَّاسِ فَقَالَ: (وَمَنْ حَبَسَ) مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ (دَارًا) أَوْ حَائِطًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ كُلِّ مَمْلُوكٍ لِلْمُحْبِسِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ (فَهِيَ) قَاصِرَةٌ (عَلَى مَا جَعَلَهَا) الْمُحْبِسُ بِالْكَسْرِ (عَلَيْهِ) بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِالصِّيغَةِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>