للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَرِيضَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ وَالْإِصْرَارُ الْمُقَامُ عَلَى الذَّنْبِ وَاعْتِقَادُ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَمِنْ التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَالنِّيَّةُ أَنْ لَا يَعُودَ وَلْيَسْتَغْفِرْ رَبَّهُ وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخَافُ عَذَابَهُ وَيَتَذَكَّرُ نِعْمَتَهُ لَدَيْهِ وَيَشْكُرُ فَضْلَهُ عَلَيْهِ

ــ

[الفواكه الدواني]

يَحْصُلُ لَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِك شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا نَعْلَمُهُ» . وَلَمَّا كَانَ الرِّيَاءُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ وَمُفْسِدًا لِلْعِبَادَةِ، وَكَانَ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ مُوجِبًا لِلتَّوْبَةِ قَالَ عَقِبَ الرِّيَاءِ:

[حُكْم التَّوْبَةُ]

(وَالتَّوْبَةُ فَرِيضَةٌ) عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا. (مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ) مِنْ الْكَبَائِرِ اتِّفَاقًا وَمِنْ الصَّغَائِرِ أَيْضًا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّنْبُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، لَكِنَّ الْمَعْلُومَ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ تَفْصِيلًا وَالْمَجْهُولُ إجْمَالًا، وَقِيلَ: إنَّ الصَّغَائِرَ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَوْبَةٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ حَيْثُ قَالَ:

ثُمَّ الذُّنُوبُ عِنْدَنَا قِسْمَانِ ... صَغِيرَةٌ كَبِيرَةٌ فَالثَّانِي

مِنْهُ الْمَتَابُ وَاجِبٌ فِي الْحَالِ ... وَلَا انْتِقَاضَ إنْ يَعُدْ لِلْحَالِ

وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَهَا مُكَفِّرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ وَقَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا، وَبِالصَّلَوَاتِ وَالْحَسَنَاتِ وَبِالْأَمْرَاضِ وَالْمَصَائِبِ.

وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ إسْلَامُهُ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: ٣٨] إلَّا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ يُغَرْغِرَ، وَتَوْبَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي رُجُوعُهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إلَى أَفْعَالٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ قِيلَ قَطْعًا وَقِيلَ ظَنًّا، وَتُقْبَلُ مِنْهُ وَلَوْ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فِيهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لِصِبَاهُ أَوْ جُنُونِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ إسْلَامُهُ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ، وَوُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يُنَافِي جَوَازَ غُفْرَانِهَا بِمَحْضِ الْعَفْوِ، وَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ مُسْتَحَبَّةً وَهِيَ التَّوْبَةُ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ وَأَكْلِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَهِيَ تَوْبَةُ الزُّهَّادِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى الْفَوْرِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ) وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِصْرَارُ الْمُقَامُ) بِضَمِّ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ (عَلَى الذَّنْبِ وَاعْتِقَادُ) أَيْ نِيَّةُ (الْعُودِ إلَيْهِ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ التَّوْبَةِ إذْ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعُودِ وَالْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ.

(فَائِدَةٌ) يُقَالُ: الْعَجَلَةُ فِي الْأُمُورِ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: التَّوْبَةُ وَالصَّلَاةُ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا، وَدَفْنُ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْكَاحُ الْبِكْرِ إذَا بَلَغَتْ، وَتَقْدِيمُ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ إذَا قَدِمَ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ إذَا حَلَّ، فَهَذِهِ سِتَّةٌ يُطْلَبُ فِيهَا الْعَجَلَةُ. (وَمِنْ) وَاجِبَاتِ (التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ) إلَى أَهْلِهَا بِأَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ إنْ كَانَتْ أَمْوَالًا وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ أَوْ يَرُدَّهَا إلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ وَارِثًا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْرَاضًا كَقَذْفٍ أَوْ غِيبَةٍ اسْتَحْلَلَ الْمَقْذُوفَ أَوْ الْمُغْتَابَ إنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ وَجَدَهُ مَاتَ فَيُكْثِرُ مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ لِيُعْطَى مِنْهَا الْمَظْلُومُ.

(وَ) مِنْ وَاجِبَاتِ التَّوْبَةِ أَيْضًا (اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ) وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِقْلَاعِ فِي الْحَالِ عَنْهَا.

(وَ) مِنْ وَاجِبَاتِهَا أَيْضًا (النِّيَّةُ) أَيْ الْعَزْمُ عَلَى (أَنْ لَا تَعُودَ) إلَيْهِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا بُدَّ فِي صِحَّتِهَا مِنْ أَرْكَانٍ وَهِيَ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعُودِ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ عَلَى مَا فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْكَانِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مَبْسُوطًا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ، وَأَشَارَ هُنَا إلَى شُرُوطِ التَّوْبَةِ الْكَمَالِيَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَلْيَسْتَغْفِرْ) التَّائِبُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (رَبَّهُ) أَيْ يَطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يَسْتُرَ مَا سَلَف مِنْهُ، وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْ التَّائِبِ الِاسْتِغْفَارُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَوَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» . وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ هُوَ مَا يَحُلُّ عُقْدَةَ الْإِصْرَارِ، وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجِنَانِ بِأَنْ يُوَافِقَ مَا فِي قَلْبِهِ مَا نَطَقَ بِهِ لِسَانُهُ لَا مُجَرَّدَ التَّلَفُّظِ بِاللِّسَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْوِجٌ لِلِاسْتِغْفَارِ وَصَغِيرَةٌ لَاحِقَةٌ بِالْكَبَائِرِ.

(وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَنْ (يَرْجُوَ رَحْمَتَهُ) بِأَنْ يَطْمَعَ فِي حُصُولِهَا مَعَ أَخْذِهِ فِي أَسْبَابِ الْحُصُولِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

(وَ) يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ (يَخَافَ عَذَابَهُ) لِأَنَّهُ وَإِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا فِي الظَّاهِرِ لَا يُقْطَعُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْخَوْفُ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: ٩] وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الشَّخْصِ قَبْلَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ مُطْفِئٌ لِنَارِ الشَّهْوَةِ وَقَامِعٌ لِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا مِنْ الْقَلْبِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْأَفْضَلُ الرَّجَاءُ وَحُسْنُ الظَّنِّ، لِأَنَّ الْخَوْفَ جَارٍ مَجْرَى السَّوْطِ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ وَقَدْ انْقَضَى وَقْتُ الْعَمَلِ، فَالْمُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فَالْمَطْلُوبُ عَنْهُ إذْ ذَاكَ الرَّجَاءُ وَزِيَادَةُ حُسْنِ الظَّنِّ فِي رَبِّهِ لِخَبَرِ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ» وَلِذَا لَمَّا حَضَرَتْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ حَدِّثْنِي بِالرُّخَصِ وَاذْكُرْ لِي الرَّجَاءَ

<<  <  ج: ص:  >  >>