بَابٌ فِي أَحْكَامِ الدِّمَاءِ وَالْحُدُودِ وَلَا تُقْتَلُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ.
أَوْ بِاعْتِرَافٍ.
أَوْ بِالْقَسَامَةِ إذَا وَجَبَتْ.
يُقْسِمُ الْوُلَاةُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ
ــ
[الفواكه الدواني]
[بَابٌ فِي أَحْكَامِ الدِّمَاءِ]
(بَابٌ فِي) بَيَانِ (أَحْكَامِ الدِّمَاءِ) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْجِرَاحَاتِ مِنْ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ (وَ) فِي بَيَانِ مُوجِبَاتِ (الْحُدُودِ) كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ، وَشَرْعًا مَا وُضِعَ لِمَنْعِ الْجَانِي مِنْ عَوْدِهِ لِمِثْلِ فِعْلِهِ وَزَجْرِ غَيْرِهِ، وَفِي مَعْنَى الْحُدُودِ التَّعَاذِيرُ وَأَحَدُهَا تَعْذِيرٌ وَهُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ الْعَذَابِ مَوْكُولٌ قَدْرُهُ لِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّ تَعْدَادَهَا مَحْدُودٌ مِنْ الشَّارِعِ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الزَّجْرُ عَنْ إتْلَافِ مَا حَكَى الْأُصُولِيُّونَ إجْمَاعَ الْمِلَلِ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِهِ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْأَدْيَانِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَنْسَابِ، فَإِنَّ فِي الْقِصَاصِ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ، وَفِي الْقَطْعِ لِلسَّرِقَةِ الْحِفْظَ لِلْأَمْوَالِ، وَفِي الْحَدِّ لِلزِّنَا حِفْظَ الْأَنْسَابِ، وَفِي الْحَدِّ لِلشُّرْبِ حِفْظَ الْعُقُولِ، وَفِي الْحَدِّ لِلْقَذْفِ حِفْظَ الْأَعْرَاضِ، وَفِي الْقَتْلِ لِلرِّدَّةِ حِفْظَ الدِّينِ، وَقِيلَ: إنَّ الْحُدُودَ جَوَائِزُ أَيْ كَفَّارَاتٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبَدَأَ الْمُصَنِّفُ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ بِقَتْلِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الذُّنُوبِ وَأَعْظَمُهَا بَعْدَ الْكُفْرِ لِلْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ سَائِرِ الْمِلَلِ عَلَى حُرْمَةِ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ» .
وَحَدِيثُ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» .
وَحَدِيثُ: «مَنْ اشْتَرَكَ فِي دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» حَتَّى اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، فَآيَةُ الْفُرْقَانِ ظَاهِرُهَا لَهُ التَّوْبَةُ، وَظَاهِرُ آيَةِ النِّسَاءِ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّ شَرْطُ التَّوْبَةِ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ تَحَلُّلُهُمْ مِنْهَا وَرَدُّ تَبِعَاتِهِمْ، وَلَا سَبِيلَ لِلْقَاتِلِ لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يُدْرِكَ الْمَقْتُولَ حَيًّا فَيَعْفُوَ عَنْهُ وَيُحَلِّلَهُ مِنْ دَمِهِ، مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّنْ قَالَ بِتَنْفِيذِ الْوَعِيدِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ.
وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ وَغَيْرُهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَحِلُّ أَنْ (تُقْتَلَ نَفْسٌ بِنَفْسٍ) أَيْ بِسَبَبِ قَتْلِ نَفْسٍ مُكَافِئَةٍ لَهَا (إلَّا) بَعْدَ الثُّبُوتِ (بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ) أَقَلُّهَا رَجُلَانِ إذْ لَا تَكْفِي شَهَادَةُ النِّسَاءِ.
قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: وَلَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَيُثْبِتُ ذَلِكَ مُوجِبَ الدِّيَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ الِاتِّفَاقُ عَلَى صِفَةِ الْقَتْلِ، فَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي صِفَتِهِ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا ذَبَحَهُ وَقَالَ الْآخَرُ حَرَقَهُ أَوْ جَرَحَهُ بِغَيْرِ ذَبْحٍ وَالْحَالُ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ لِلشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ قَامَ الْأَوْلِيَاءُ بِالشَّاهِدِينَ بَطَلَ الدَّمُ وَإِنْ قَامُوا بِأَحَدِهِمَا أَقْسَمُوا مَعَهُ وَاقْتَصُّوا وَسَقَطَتْ شَهَادَةُ الْآخَرِ لِاجْتِمَاعِ الْقَاتِلِ وَالْأَوْلِيَاءِ عَلَى تَكْذِيبِهَا وَإِنْ اعْتَرَفَ الْقَاتِلُ بِالذَّبْحِ وَقَامَ الْأَوْلِيَاءُ بِشَاهِدِ التَّحْرِيقِ فَإِنْ كَانَ أَعْدَلَ أَقْسَمُوا مَعَهُ وَحَرَقُوهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِصَاصِ بِالتَّحْرِيقِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَعْدَلَ حَلَفَ مَعَهُ الْقَاتِلُ وَقُتِلَ ذَبْحًا لَا بِالْحَرْقِ.
(أَوْ) إلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ (بِاعْتِرَافٍ) أَيْ إقْرَارٍ مِنْ الْجَانِي الْمُكَلَّفِ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ اخْتِيَارِهِ بِالْقَتْلِ فَيَجُوزُ قَتْلُهُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مُؤَاخَذٌ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ اخْتِيَارِهِ، لَا إنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَإِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
[ثُبُوت الْقَتْل بِالْقَسَامَةِ]
(أَوْ) إلَّا أَنْ يَحْصُلَ ثُبُوتُ الْقَتْلِ (بِالْقَسَامَةِ) وَهِيَ خَمْسُونَ يَمِينًا.
(إذَا وَجَبَتْ) أَيْ الْقَسَامَةَ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ عَاقِلًا بَالِغًا مُكَافِئًا لِلْمَقْتُولِ فِي الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ غَيْرَ أَبٍ، وَلَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةٌ يَثْبُتُ بِهَا الْقَتْلُ وَلَا اعْتِرَافٌ مِنْ الْجَانِي وَإِنَّمَا وُجِدَ لَوْثٌ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَالْقَسَامَةُ سَبَبُهَا قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ، وَحَقِيقَةُ اللَّوْثِ أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي، فَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ الْقَتْلَ مَنْ لَا يَعْرِفُ قَاتِلَهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ حُرًّا مُسْلِمًا.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ قَتْلًا لَا جُرْحًا.
رَابِعُهَا: أَنْ تَتَّفِقَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى الْقَتْلِ.
خَامِسُهَا: أَنْ تَكُونَ وُلَاةُ الدَّمِ فِي الْعَمْدِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا.
سَادِسُهَا: أَنْ تَكُونَ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْعَمْدِ رِجَالًا عُقَلَاءَ بَالِغِينَ.
سَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لَوْثٌ يُقَوِّي دَعْوَاهُمْ كَالشَّاهِدِ الْعَدْلِ رُؤْيَةَ الْقَتْلِ أَوْ