للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[الفواكه الدواني]

قَتْلُ الْمُسْلِمِ (السَّاحِرِ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ) وَهُوَ الَّذِي يَصْنَعُ السِّحْرَ بِغَيْرِهِ بِأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، أَوْ يُذْهِبَ عَقْلَ غَيْرِهِ، أَوْ يَفْعَلَ فِعْلًا يُغَيِّرُ بِهِ صُورَةَ غَيْرِهِ كَتَغَيُّرِ صُورَةِ إنْسَانٍ بِصُورَةِ حِمَارٍ أَوْ كَلْبٍ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا كَالزِّنْدِيقِ وَهُوَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ يُخْفِي ذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِهِ لَقُتِلَ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَالُهُ فَيْءٌ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا: كَالزِّنْدِيقِ فِي حَالِ إخْفَائِهِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَعْمَلُ السِّحْرَ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ وَلَا يُقْتَلُ، كَمَنْ يَسْتَأْجِرُ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ آخَرَ فَإِنَّ الَّذِي يُقْتَلُ هُوَ الْقَاتِلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتْلِ السَّاحِرِ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» .

وَاخْتُلِفَ هَلْ يَجُوزُ لِشَخْصٍ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ لِإِبْطَالِ السِّحْرِ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ مَنَعَهُ الْحَسَنُ قَائِلًا: لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ إلَّا سَاحِرٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَالُجِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْجَوَازِ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ كَثِيرًا مَا يُبَاحُ إنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا، وَأَمَّا الَّذِي يُدْخِلُ السَّكَاكِينَ فِي جَوْفِهِ فَإِنْ كَانَ سِحْرًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ وَإِلَّا عُوقِبَ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، وَقَوْلُنَا الْمُسْلِمُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ السَّاحِرِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ وَإِنَّمَا يُؤَدَّبُ إلَّا أَنْ يُدْخِلَ بِسِحْرِهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ فَيُقْتَلُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ.

(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ السِّحْرِ الَّذِي أَعْلَمَ اللَّهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَيُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ مَنْ يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ وَيَثْبُتُ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عِنْدَ الْإِمَامِ، هَكَذَا يُفِيدُهُ كَلَامُ أَصْبَغَ وَاسْتَصْوَبَ كَلَامَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ.

الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِيمَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَلَفْظُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ قَالَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّمَا يَكْفُرُ السَّاحِرُ لَا مَنْ تَعَلَّمَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَاسْتَصْوَبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى قَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ عَلَى أُصُولِنَا، وَاحْتَجَّ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ كُفْرِ مُتَعَلِّمِهِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ بِهِ بِأَنَّ تَعَلُّمَ مَا بِهِ الْكُفْرُ لَا يَكُونُ كُفْرًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُصُولِيَّ يَتَعَلَّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لِيُحَذِّرَ مِنْهُ غَيْرَهُ فَتَعَلُّمُ مَا بِهِ السِّحْرُ أَوْلَى، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّهُ لَا كُفْرَ إلَّا بِفِعْلِهِ لِجَعْلِهِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْفِعْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْكُفْرِ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ مَالِكٍ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيَعْمَلَ بِهِ وَكَلَامُ غَيْرِهِ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيُحَذِّرَ مِنْهُ غَيْرَهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيَعْمَلَ بِهِ مَظِنَّةٌ لِاسْتِحْلَالِهِ وَاعْتِقَادِ تَأْثِيرِهِ وَهُوَ مُكَفِّرٌ بِخِلَافِ مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيُحَذِّرَ مِنْهُ غَيْرَهُ.

الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الشُّيُوخُ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ، فَذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ كَالرَّازِيِّ إلَى أَنَّهُ اسْتِحْدَاثُ الْخَوَارِقِ لِمُجَرَّدِ النَّفْسِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: السِّحْرُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ يَتَسَبَّبُ عَنْ سَبَبٍ مُعْتَادٍ كَوْنُهُ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيهُ: هُوَ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَتُنْسَبُ إلَيْهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ بِكُفْرِ مَنْ تَعَلَّمَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ ظَاهِرٌ عَلَى حَدِّ ابْنِ الْعَرَبِيِّ.

[كِتَاب الْحُدُود]

[أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ]

ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ مِنْ الِارْتِدَادِ الَّذِي هُوَ الرُّجُوعُ وَمِنْهُ الْمُرْتَدُّ، وَحَقِيقَةُ الرِّدَّةِ شَرْعًا قَطْعُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُكَلَّفِ وَفِي الصَّبِيِّ خِلَافٌ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الرِّدَّةُ كُفْرٌ بَعْدَ إسْلَامٍ تَقَرَّرَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْتِزَامِ أَحْكَامِهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَيُقْتَلُ) وُجُوبًا كُلُّ (مَنْ ارْتَدَّ) أَيْ قَطَعَ إسْلَامَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: ٣٠] أَوْ الْبَعِيدُ كَفَرَ بِاَللَّهِ، أَوْ أَشْرَكَ بِهِ، أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْكُفْرَ، كَقَوْلِهِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ، أَوْ الرُّكُوعُ أَوْ السُّجُودُ غَيْرُ فَرْضٍ لِأَنَّ الْجَاحِدَ كَافِرٌ، أَوْ الْحَجُّ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، أَوْ اللَّهُ جِسْمٌ كَأَجْسَامِ الْحَوَادِثِ، أَوْ أَتَى بِفِعْلٍ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ كَإِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَذَرٍ اخْتِيَارًا أَوْ شَدَّ نَحْوَ الزُّنَّارِ وَتَوَجَّهَ بِهِ إلَى مُتَعَبَّدِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» .

وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» .

وَمَحَلُّ قَتْلِهِ (إلَى أَنْ يَتُوبَ) بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَشَارَ إلَى مُدَّةِ تَأْخِيرِهِ لِلتَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: (وَيُؤَخَّرُ) وُجُوبًا (لِلتَّوْبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا جُوعٍ وَعَطَشٍ وَمُعَاقَبَةٍ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَتُوبُ، فَإِنْ تَابَ فَلَا إشْكَالَ وَإِلَّا قُتِلَ بِغُرُوبِ شَمْسِ الثَّالِثِ، وَتُحْسَبُ الثَّلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ ثُبُوتِ الْكُفْرِ لَا مِنْ يَوْمِ الرَّفْعِ مَعَ تَأَخُّرِ الثُّبُوتِ، وَلَا يُحْسَبُ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الثُّبُوتُ وَلَا يَوْمُ الِارْتِدَادِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يُلَفَّقُ هُنَا، وَإِنَّمَا كَانَ زَمَنُ الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَّرَ قَوْمَ صَالِحٍ ذَلِكَ الْقَدْرَ حَيْثُ قَالَ: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: ٦٥] فَلَوْ حَكَمَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ دَاخِلَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مَضَى لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَيَّدْنَا بِبَعْدِ الْبُلُوغِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا ارْتَدَّ يُهَدَّدُ وَلَا يُقْتَلُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ) تُقْتَلُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا أَنْ تَتُوبَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ سَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ، وَهِيَ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ حَمْلُهَا فَتُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ وَلَوْ حُرَّةً، وَإِنْ كَانَتْ تُرْضِعُ فَتُؤَخَّرُ حَتَّى تَجِدَ مَنْ يُرْضِعُ وَلَدَهَا وَيَقْبَلُهُ الْوَلَدُ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ قَتْلِ النِّسَاءِ لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

<<  <  ج: ص:  >  >>