للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسَاجِدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: ١٨٧] فَإِنْ كَانَ بَلَدٌ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجَامِعِ إلَّا أَنْ يَنْذِرَ أَيَّامًا لَا تَأْخُذُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ

وَأَقَلُّ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الِاعْتِكَافِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ

وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ لَزِمَهُ وَإِنْ نَذَرَ لَيْلَةً لَزِمَهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ

وَمَنْ أَفْطَرَ فِيهِ مُتَعَمِّدًا فَلْيَبْتَدِئْ اعْتِكَافَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ جَامِع فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا أَوْ

ــ

[الفواكه الدواني]

ذِمَّتُهُ فَرَّقَهُ أَوْ تَابَعَهُ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ يَسْتَغْرِقُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَكَأَنَّ حُكْمَهُ يَقْتَضِي التَّتَابُعَ اعْتِبَارًا بِأَجَلِ الدَّيْنِ وَالْإِجَازَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْأَيْمَانِ نَحْوَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا ثَلَاثَ أَيَّامٍ، فَيَحْنَثُ إنْ كَلَّمَهُ فِي لَيَالِيهَا كَمَا يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ فِي النَّهَارِ.

(وَ) مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ أَيْضًا أَنَّهُ (لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ) الْمُبَاحَةِ فَلَا يَصِحُّ فِي بَيْتٍ وَلَا فِي مَسْجِدٍ مُحَجَّرٍ وَلَا فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَلَا فِي بَيْتِ قَنَادِيلِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ امْرَأَةً، وَاشْتِرَاطُ الْمَسْجِدِ (كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: ١٨٧] وَإِطْلَاقُ الْمَسْجِدِ يَعُمُّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ وَهَذَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَ عَجْزِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمَسَاجِدُ شَامِلَةً لِلْجَوَامِعِ ذَوَاتِ الْخُطَبِ وَغَيْرِهَا، وَالِاعْتِكَافُ تَارَةً يَسْتَلْزِمُ الْجُمُعَةَ وَتَارَةً لَا، وَكَانَ الْأَوَّلُ يَجِبُ فِيهِ الْجَامِعُ دُونَ الثَّانِي قَالَ: (فَإِنْ كَانَ) أَيْ مَحَلُّ مُرِيدِ الِاعْتِكَافِ الْمَفْهُومِ مِنْ الْمَقَامِ (بَلَدًا فِيهَا الْجُمُعَةُ) وَكَانَ مُرِيدُ الِاعْتِكَافِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَنَوَى أَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ تُدْرِكُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ (فَلَا يَكُونُ) اعْتِكَافُهُ (إلَّا فِي الْجَامِعِ) لِأَجْلِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَلَوْ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا خُطْبَةَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، فَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْجُمُعَةِ صَغِيرَةٌ، وَالِاعْتِكَافُ إنَّمَا يَبْطُلُ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتْرُكَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَإِلَّا جَرَى الْخِلَافُ فِي بُطْلَانِهِ بِالْكَبِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجَامِعِ قَوْلَهُ: (إلَّا أَنْ يَنْذِرَ) أَوْ يَنْوِيَ (أَيَّامًا لَا تَأْخُذُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ

[أَقَلّ مُدَّة الأعتكاف]

، ثُمَّ بَيَّنَ أَقَلَّ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ بِقَوْلِهِ: (وَأَقَلُّ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الِاعْتِكَافِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّ مَالِكًا أَنْكَرَ مُقَابِلَهُ وَقَالَ: أَقَلُّهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْتَكِفْ أَقَلَّ مِنْهَا، وَأَكْثَرُهُ شَهْرٌ، وَيُكْرَهُ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: أَكْمَلُهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَأَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَيُكْرَهُ مَا زَادَ عَلَى عَشْرَةٍ، وَنُقِلَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا فَتَلَخَّصَ أَنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ فِي أَقَلِّهِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْأَقَلِّ فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا أَوْ دَخَلَ فِيهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ عَدَدًا، فَعَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْمُسْتَحَبِّ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ يَلْزَمُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ الْمُسْتَحَبِّ عِنْدَهُ

. (وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ لَزِمَهُ) مَعَ لَيْلَةٍ فَيَلْزَمُهُ دُخُولُ الْمُعْتَكَفِ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَوْ مَعَهُ.

(وَ) كَذَا (إنْ نَذَرَ) اعْتِكَافَ (لَيْلَةً) فَقَطْ. (لَزِمَهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَ يَوْمٌ إنْ نَذَرَ لَيْلَةً وَكَذَا عَكْسُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَذَرَ بَعْضَ يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ لَيْلَةٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْجِوَارَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْأَمْرَانِ بِنَذْرِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ اللَّيْلَةَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ يَوْمِهَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: ١٤٢] الْآيَةَ، اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَيَّامُ وَلَيَالِيهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّ السِّتَّةَ بِلَيَالِيِهَا مِنْ شَوَّالٍ» فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ نَذْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَرَاهَتِهِ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ مَعَ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي ذَلِكَ الْأَقَلِّ شَائِبَتَيْنِ، شَائِبَةَ كَوْنِهِ مُطْلَقَ عِبَادَةٍ، وَشَائِبَةَ التَّجْدِيدِ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ، فَيَلْزَمُ النَّاذِرَ الْوَفَاءُ بِهِ لِلشَّائِبَةِ الْأُولَى كَمَا قَالُوهُ فِي نَاذِرِ رَابِعِ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَكْرُوهًا قَبْلَ النَّذْرِ، وَمِثْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي لُزُومِهِ الْوَفَاءَ لَوْ نَذَرَ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ

[مُبْطِلَات الِاعْتِكَاف]

، ثُمَّ شَرَعَ فِي بُطْلَانِ الِاعْتِكَافِ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ أَفْطَرَ فِيهِ) أَيْ فِي زَمَنِ اعْتِكَافِهِ (مُتَعَمِّدًا فَلْيَبْتَدِئْ اعْتِكَافَهُ) لِبُطْلَانِهِ بِتَعَمُّدِ إفْسَادِ الصَّوْمِ، وَمَفْهُومُ مُتَعَمِّدًا لَوْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ وَبِغَيْرِ وَطْءٍ وَمُقَدِّمَاتِهِ كَأَكْلِهِ نَاسِيًا وَكَمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ فَلَا يَبْتَدِئُهُ لِعَدَمِ بُطْلَانِهِ وَيَقْضِي بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ الْيَوْمَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْفِطْرُ وَاصِلًا لَهُ بِاعْتِكَافِهِ حَيْثُ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا بِحَسَبِ الْأَصْلِ كَرَمَضَانَ أَوْ مَنْذُورًا وَلَوْ مُعَيَّنًا، فَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْبِنَاءِ فَنَسِيَ ابْتِدَاءَ اعْتِكَافِهِ وَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ الثَّانِي، بِخِلَافِ مَنْ ذَكَرَ نَجَاسَةً وَهَمَّ بِغَسْلِهَا فَنَسِيَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ النِّسْيَانِ الثَّانِي فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَيُعِيدُ نَدْبًا فِي الْوَقْتِ لِخِفَّةِ أَمْرِ النَّجَاسَةِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ إزَالَتَهَا سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الصَّوْمُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِي زَمَنِهِ تَطَوُّعًا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَكَذَلِكَ يَقْضِيهِ لِمَا مَعَهُ مِنْ التَّفْرِيطِ، وَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ لِحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ لَمْ يَلْزَمْ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَقْضِي مَا أَفْطَرَ فِي زَمَنِهِ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ مَعَ كَوْنِهِ مَنْذُورًا مُعَيَّنًا وَفَاتَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا انْضَمَّ لَهُ الِاعْتِكَافُ تَقَوَّى جَانِبُهُ فَلَزِمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>