للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُخَالَطَةٍ وَنَحْوِهِ وَلَا فِي تَجْرِيحِ شَاهِدٍ وَنَحْوِهِ.

وَمِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَصِلَ

ــ

[الفواكه الدواني]

بِتِلْكَ الْمَخَازِي، وَالْغِيبَةُ إنَّمَا حَرُمَتْ لِحَقِّ الْمُغْتَابِ وَتَأَلُّمِهِ بِذَكَرِ الْمَكَارِهِ وَهَذَا لَا يَتَأَلَّمُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُعْلِنُ بِنَحْوِ الْمَكْسِ وَتَمَدُّحُهُ بِأَخْذِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ وَالْمُلُوكِ وَقَهْرِهِمْ فَلَا يَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، مِثْلُ اللِّصِّ الَّذِي يَتَجَاهَرُ بِسَرِقَتِهِ وَيَتَمَدَّحُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَأَذَّوْنَ بِسَمَاعِ تِلْكَ الْمَخَازِي فِيهِمْ بَلْ يُسَرُّونَ، انْتَهَى كَلَامُ الْقَرَافِيِّ.

قَالَ اللَّقَانِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يُقَالُ اشْتِرَاطُ الْإِعْلَانِ وَالْمُجَاهَرَةِ يُخَالِفُهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ «لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَوَازُ غِيبَةِ الْفَاسِقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتِ الصِّحَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَوْ سَلِمَتْ صِحَّتُهُ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا اُغْتِيبَ بِجِنْسِ مَا بِهِ فِسْقٌ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ وَمُجَاهَرَتِهِ بِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ لَمْ يَتَجَاهَرْ بِهِ فَلَا تَجُوزُ غِيبَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى إطْلَاقِهِ اتِّفَاقًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ اللَّقَانِيِّ كَظَاهِرِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ غِيبَةِ هَذَيْنِ بِمَا تَجَاهَرَا بِهِ سَوَاءٌ سُئِلَ عَنْهُمَا أَمْ لَا، وَقَيَّدَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ الْجَوَازَ بِمَا إذَا سُئِلَ عَنْ حَالِهِمَا أَوْ قَصَدَ بِذَكَرِ حَالِهِمَا تَحْذِيرَ النَّاسِ مِنْهُمَا مَخَافَةَ أَنْ تُنْسَبَ النَّاسُ لِمِثْلِ طَرِيقَتِهِمَا وَالرِّضَا بِهَا.

(وَلَا) تَحْرُمُ الْغِيبَةُ أَيْضًا (فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ) الْإِنْسَانُ (كَنِكَاحٍ) بِأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لِآخَرَ: أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِنْتَ فُلَانٍ وَلَا أَعْرِفُ فَيَجُوزُ حَالُهُ فَيَجُوزُ لَهُ ذِكْرُ حَالِهِ بِقَصْدِ النَّصِيحَةِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنَّهُ ذَكَرَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَا فِي مُعَاوِيَةَ وَأَبِي جَهْمٍ حِينَ خَطَبَاهَا فَقَالَ لَهَا: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» . وَالْجَوَازُ هُنَا مَعَ النَّدْبِ عِنْدَ عَدَمِ السُّؤَالِ عَلَى كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَكَلَامِ غَيْرِهِ كَالْقَرَافِيِّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ النَّصِيحَةَ وَاجِبَةٌ حَيْثُ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا بِأَنْ كَانَ الْمَنْصُوحُ شَرَعَ فِي فِعْلِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يُعْرَفُ حَالُهُ أَمْ لَا عَلَى الصَّوَابِ، لَكِنْ شَرَطَ الْقَرَافِيُّ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَقْتَصِرَ النَّاصِحُ عَلَى ذِكْرِ الْوَصْفِ الْمُخِلِّ بِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَجَاوَزُهُ لِعَيْبٍ آخَرَ، فَإِذَا اسْتَشَارَهُ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَذْكُرُ لَهُ عَيْبًا فِي نَحْوِ الشَّرِكَةِ. (أَوْ) أَيْ وَلَا تَحْرُمُ الْغِيبَةُ أَيْضًا فِي ذِكْرِ عُيُوبِ شَخْصٍ سُئِلَ عَنْهُ لِأَجْلِ (مُخَالَطَةٍ) مُشَارَكَةٍ أَوْ سَفَرٍ لِتِجَارَةٍ. (وَنَحْوِهِ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ النِّكَاحِ وَالْمُخَالَطَةِ، كَالْمُشَاوَرَةِ فِي التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ أَوْ لِيَسْتَأْجِرَهُ لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى السَّائِلِ وَيَحْتَاجُ إلَى مِنْ يَنْصَحُهُ فِيهِ. (وَلَا) تَحْرُمُ الْغِيبَةُ أَيْضًا (فِي) ذِكْرِ أَوْصَافٍ لِأَجْلِ (تَجْرِيحِ شَاهِدٍ) لِرَدِّ شَهَادَتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ حَاكِمٍ وَعِنْدَ تَوَقُّعِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ فَيَحْرُمُ التَّجْرِيحُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَالضَّمِيرُ فِي (وَنَحْوِهِ) لِلشَّاهِدِ كَرَاوِي الْحَدِيثِ يُذْكَرُ حَالُهُ لِيُتْرَكَ الْعَمَلُ بِحَدِيثِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْبَيَانِ، وَكَذَا لَا غِيبَةَ فِي ذِكْرِ أَوْصَافِ مَنْ يُرَادُ تَقْدِيمُهُ لِصَلَاةٍ وَحَصَلَ السُّؤَالُ عَنْ بَيَانِ حَالِهِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُ وَصْفِهِ الَّذِي يُكْرَهُ لِلتَّنْفِيرِ مِنْ تَقْدِيمِهِ، كَمَا يَجُوزُ ذِكْرُ حَالِ مَنْ يُتَظَلَّمُ مِنْهُ لِنَحْوِ سُلْطَانٍ أَوْ لِأَجْلِ تَعْيِينِ شَخْصٍ لِكَوْنِهِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِذَلِكَ نَحْوَ الْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الْغِيبَةُ فِي بَيْتٍ غَيْرِ مَا قَدَّمْنَاهُ حَيْثُ قَالَ:

تَظَلَّمْ وَاسْتَغِثْ وَاسْتَفْتِ حَذِّرْ ... وَعَرِّفْ بِدْعَةً فِسْقَ الْمُجَاهِرْ

فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ التَّظَلُّمُ وَالشَّكْوَى مِنْ الظَّالِمِ لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إزَالَةِ ظُلْمِهِ بِذِكْرِ قَبَائِحِهِ الَّتِي فَعَلَهَا مَعَ الْمَظْلُومِ، وَكَذَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إزَالَةِ مُنْكَرٍ وَقَعَ مِنْ شَخْصٍ وَيَقُولُ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ: حَصَلَ مِنْ فُلَانٍ كَذَا فَأَعِنِّي عَلَى زَجْرِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ إزَالَةَ الْمُنْكَرِ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: فُلَانٌ قَالَ لِي كَذَا، وَالتَّحْذِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الشِّرَاءِ كَمَا لَوْ أَرَادَ شَخْصٌ شِرَاءَ عَبْدٍ وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّهُ مَشْهُورٌ بِالسَّرِقَةِ أَوْ أَنَّهُ حُرٌّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذِكْرُ وَصْفِهِ لِمَا يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الضَّرَرِ.

وَكَذَا تَجُوزُ الْغِيبَةُ لِبَيَانِ الْبِدْعَةِ كَمَا لَوْ رَأَيْت فَقِيهًا يَتَرَدَّدُ عَلَى مُبْتَدَعٍ أَوْ فَاسِقٍ لِيَأْخُذَ عَنْهُ الْعِلْمَ وَخِفْت أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ لِلْعَمَلِ بِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْك بَيَانُ حَالِهِ كُلُّ ذَلِكَ بِقَصْدِ النَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مُعْظَمَ ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ آدَابٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُطْلَبُ مِنْ الْعَاقِلِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا فَقَالَ:

[مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ]

(وَمِنْ مَكَارِمِ) أَيْ مَحَاسِنِ (الْأَخْلَاقِ أَنْ تَعْفُوَ) أَيْ تَصْفَحَ (عَنْ) زَلَّةِ (مَنْ ظَلَمَك) وَتَعَدَّى عَلَيْك بِشَتْمٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: ١٣٤] وَقَالَ أَيْضًا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: ٤٠] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ فِي مَدْحِ مَنْ يَصْفَحُ عَنْ زَلَّةِ غَيْرِهِ.

(وَ) مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَيْضًا أَنْ (تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك) شَيْئًا مِنْ الْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>