يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ أَنْ يَضِيعَ فَلْيُوَارِهِ
وَاللَّحْدُ أَحَبُّ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الشَّقِّ وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَ لِلْمَيِّتِ تَحْتَ الْجَرْفِ فِي حَائِطِ قِبْلَةِ الْقَبْرِ وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ تُرْبَةً صَلْبَةً لَا تَتَهَيَّلُ وَلَا تَتَقَطَّعُ وَكَذَلِكَ فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ــ
[الفواكه الدواني]
حَجَرٍ عَلَيْهِ بِلَا نَقْشٍ وَإِلَّا كُرِهَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّقْشُ بِقُرْآنٍ فَتَظْهَرُ الْحُرْمَةُ خَوْفَ الِامْتِهَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، وَهِيَ فِي الْبِنَاءِ عَلَى خُصُوصِ الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ حَبْسٌ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَمَّا الْقُبَبُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يُضْرَبُ عَلَى الْقَبْرِ فَلَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهَا فِي الْأَرْضِ الْمُحْبَسَةِ عَلَى دَفْنِ الْأَمْوَاتِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّحْجِيرِ عَلَى مَا هُوَ حَقٌّ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ.
(وَ) كَمَا يُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يُكْرَهُ (تَجْصِيصُهَا) أَيْ تَبْيِيضُهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لَنَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ «نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ» ، وَمَا وَرَدَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكُونُ عَلَى الْقَبْرِ تَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ مَا لَمْ يُجَصَّصْ فَإِنْ جُصِّصَ تَرَكُوا الِاسْتِغْفَارَ، وَعَلَى هَذَا كُلِّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَتَطْيِينُ قَبْرٍ وَتَبْيِيضُهُ وَبِنَاءٌ عَلَيْهِ وَتَحْوِيزٌ فَإِنْ بُوهِيَ بِهِ حَرُمَ، وَجَازَ لِلتَّمْيِيزِ كَحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ بِلَا نَقْشٍ إلَّا كُرِهَ،
وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ حُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ وُجُوبُ مُوَارَاةِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ أَبُوهُ كَافِرًا وَتَغْسِيلُهُ قَالَ: (وَلَا يُغَسِّلُ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ (الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ) وَأَوْلَى غَيْرُ الْأَبِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ (وَلَا يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ) ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْبِرِّ سَقَطَ بِمَوْتِهِ وَقَبْرُهُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ بَلْ يَتْرُكُهُ إلَى أَهْلِ دِينِهِ (إلَّا أَنْ يَخَافَ) عَلَيْهِ (أَنْ يَضِيعَ) بِتَرْكِ مُوَارَاتِهِ (فَلْيُوَارِهِ) وُجُوبًا بِكَفْنِهِ وَدَفْنِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَعَرَّةِ وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ قِبْلَتَنَا وَلَا قِبْلَتَهُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا ذُكِرَ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْكَافِرُ يَتَنَاوَلُ الْحَرْبِيَّ خِلَافًا لِبَعْضٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ «أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا مَاتَ جَاءَ وَلَدُهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: اذْهَبْ فَوَارِهِ» ، وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُوَارَاتِهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ.
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرَ الْقَرِيبِ لَا تَجِبُ مُوَارَاتُهُ عِنْدَ خَوْفِ ضَيْعَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ وُجُوبُ مُوَارَاتِهِ عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ عَلَيْهِ عَامٌّ حَتَّى فِي الْأَجْنَبِيِّ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ وَغَيْرَهُ كَخَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُغَسِّلُ مُسْلِمٌ أَبًا كَافِرًا وَلَا يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ إلَّا أَنْ يَضِيعَ فَلْيُوَارِهِ إنَّمَا نَصَّ الْمُتَوَهِّمُ فَلَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَتْ مُوَارَاتُهُ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ فَالْأَجْنَبِيُّ أَحْرَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ مُوَارَاةِ الْآدَمِيِّ فَافْهَمْ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ فِي مَحَلِّ الدَّفْنِ فَقَالَ (وَاللَّحْدُ أَحَبُّ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الشَّقِّ) بِفَتْحِ الشِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَ اللَّحْدُ أَحَبَّ لِخَبَرِ: «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» وَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَهُ لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ «كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ وَالْآخَرُ يَشُقُّ فَقَالَتْ الصَّحَابَةُ: أَيُّهُمَا جَاءَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ فَلَحَدَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَأَفْعَلُ التَّفْضِيل لَيْسَ عَلَى بَابِهِ كَمَا تَقْتَضِيه الْأَدِلَّةُ، وَفَسَّرَ اللَّحْدَ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ أَنْ يُحْفَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (لِلْمَيِّتِ تَحْتَ الْجُرْفِ فِي حَائِطِ قِبْلَةِ الْقَبْرِ) أَيْ فِي جَانِبِ الْحَائِطِ الْكَائِنِ فِي الْقِبْلَةِ. (وَذَلِكَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحَبِّيَّةِ اللَّحْدِ عَلَى الشَّقِّ (إذَا كَانَتْ) الْمَقْبَرَةُ (تُرْبَةً صَلْبَةً) أَيْ (تَتَهَيَّلُ) كَالرَّمْلِ (وَ) لَا (تَتَقَطَّعُ) أَيْ تَسْقُطُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَإِلَّا كَانَ الشَّقُّ أَفْضَلَ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَحْفِرَ حُفْرَةً فِي وَسَطِ الْقَبْرِ وَيَبْنِيَ جَانِبَاهَا بِاللَّبِنِ أَوْ غَيْرِهِ وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ فِيهَا وَيُسَدُّ عَلَيْهِ بِاللَّبِنِ فَوْقَ الْجَانِبَيْنِ كَالسَّقْفِ بِحَيْثُ لَا يَمَسُّ الْمَيِّتَ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَلِأَجْلِ فَضْلِ اللَّحْدِ (فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . (خَاتِمَةٌ) لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ غَايَةَ الْقَبْرِ وَبَيَّنَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَقَلُّهُ مَا مَنَعَ رَائِحَتَهُ وَحَرَسَهُ، وَيُسْتَحَبُّ عَدَمُ عُمْقِهِ وَكَوْنُهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ سَبْخَةٍ لِسُرْعَةِ الْبَلَاءِ فِيهَا، وَاَلَّتِي لَا تُبْلَى أَفْضَلُ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[بَاب فِي الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز وَالدُّعَاء لِلْمَيِّتِ]
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ شَرَعَ فِيمَا يَكُونُ بَعْدَهُمَا وَهُوَ الصَّلَاةُ بِقَوْلِهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute