للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْأَعْمَالِ بِفَرَائِضِهِ وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ فِعْلَهُ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ، وَكُلُّ مَا ضَيَّعَ مِنْ فَرَائِضِهِ فَلْيَفْعَلْهُ الْآنَ وَلْيَرْغَبْ إلَى اللَّهِ فِي تَقَبُّلِهِ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ تَضْيِيعِهِ وَلْيَلْجَأْ إلَى اللَّهِ فِيمَا عَسُرَ عَلَيْهِ مِنْ قِيَادِ نَفْسِهِ وَمُحَاوَلَةِ أَمْرِهِ مُوقِنًا أَنَّهُ الْمَالِكُ لِصَلَاحِ شَأْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ لَا يُفَارِقُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْفِكْرَةُ فِي أَمْرِ اللَّهِ مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ فَاسْتَعِنْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْفِكْرَةِ فِيمَا بَعْدَهُ وَفِي نِعْمَةِ رَبِّك عَلَيْك وَإِمْهَالِهِ لَك وَأَخْذِهِ

ــ

[الفواكه الدواني]

حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عِنْدَ الْمَوْتِ لِابْنِهِ: اُذْكُرْ لِي الْأَخْبَارَ الَّتِي فِيهَا الرَّجَاءُ وَحُسْنُ الظَّنِّ.

(وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَنْ (يَتَذَكَّرَ نِعْمَتَهُ) تَعَالَى (لَدَيْهِ) وَهِيَ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ وَإِقْدَارُهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: ٤٠] لِأَنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ يَكُون سَبَبًا لِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ.

(وَ) يُطْلَبُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ (يَشْكُرَ فَضْلَهُ) تَعَالَى (عَلَيْهِ) بِأَنْ يَأْتِيَ (بِالْأَعْمَالِ بِفَرَائِضِهِ) الَّتِي افْتَرَضَهَا عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: ١٣] (وَ) بِالِامْتِثَالِ لِ (تَرْكِ مَا يُكْرَهُ) أَوْ يُحَرِّمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (فِعْلَهُ) أَوْ قَوْلَهُ فَمَكْرُوهُ الْفِعْلِ كَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، وَمَكْرُوهُ الْقَوْلِ كَالتَّكَلُّمِ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَالْمُحَرَّمُ فِعْلُهُ كَالزِّنَا، وَالْمُحَرَّمُ الْقَوْلُ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ.

(وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا أَنْ (يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا لِخَبَرِ: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْته، وَإِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ» . (وَكُلُّ مَا ضَيَّعَ) أَيْ التَّائِبُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (مِنْ فَرَائِضَ) قَبْلَ تَوْبَتِهِ (فَلْيَفْعَلْهُ الْآنَ) وُجُوبًا عَلَى الْفَوْرِيَّةِ وَلَوْ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ حَيْثُ تَحَقَّقَ تَرْكُهَا وَإِلَّا تَوَقَّى أَوْقَاتَ النَّهْيِ، وَلَا يُوَسَّعُ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ إلَّا زَمَنَ اشْتِغَالِهِ فِي نَوْمِهِ أَوْ ضَرُورِيَّاتِهِ أَوْ حُضُورِ عِلْمِ مُتَعَيِّنٍ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّوَافِلُ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَرْضِ سِوَى الْمُؤَكَّدِ كَالْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَالْفَجْرِ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْهَا احْتَاطَ. (وَلْيَرْغَبْ) التَّائِبُ أَنْ يَتَضَرَّعَ وَيَتَذَلَّلَ (إلَى اللَّهِ فِي تَقَبُّلِهِ) لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ بَعْدَ تَضْيِيعِهَا.

(وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَتُوبَ عَلَيْهِ مِنْ) أَجْلِ (تَضْيِيعِهِ) لِلْفَرَائِضِ لِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ تَأْخِيرَ الْفَرَائِضِ عَنْ أَوْقَاتِهَا عَمْدًا مِنْ الْكَبَائِرِ. (وَلْيَلْجَأْ) أَيْ يَتَضَرَّعْ (إلَى اللَّهِ) وَيَفْزَعْ إلَيْهِ (فِيمَا عَسُرَ) أَيْ صَعُبَ (عَلَيْهِ مِنْ قِيَادَةِ نَفْسِهِ) إلَى الطَّاعَةِ لِرَغْبَتِهَا عَنْهَا وَعَدَمِ مَيْلِهَا لِفِعْلِهَا، فَيَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ إلَى فِعْلِهَا، فَمَعْنَى قِيَادَةِ نَفْسِهِ امْتِثَالُهَا وَمَيْلُهَا إلَى الطَّاعَةِ، فَيَلْجَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يُذَلِّلَهَا، وَيَجْعَلَ الطَّاعَةَ سَهْلَةً عَلَيْهَا لِأَنَّهُ الْمُسَهِّلُ وَالْمُوَفِّقُ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ مَكِّنَّا أَنْفُسَنَا وَلَا تُسَلِّطْهَا عَلَيْنَا.

(وَ) كَمَا يَلْجَأُ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ فِيمَا عَسُرَ مِنْ قِيَادِ نَفْسِهِ يَلْجَأُ إلَيْهِ فِي (مُحَاوَلَةِ أَمْرِهِ) الْمُشْكِلِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِ فِعْلِهِ أَحْسَنَ لَهُ أَوْ تَرْكِهِ، فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ فِي إلْهَامِهِ لِمَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ حَالَةَ كَوْنِهِ (مُوقِنًا) أَيْ مُصَدِّقًا (أَنَّهُ الْمَالِكُ لِصَلَاحِ شَأْنِهِ) أَيْ أَمْرِهِ كُلِّهِ (وَ) أَنَّهُ الْمَالِكُ لِ (تَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ إذْ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ (لَا يُفَارِقَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ اللَّجَأِ وَالْيَقِينِ بَلْ يَلْزَمُهَا (عَلَى مَا فِيهِ) أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ فِيهِ (مِنْ حُسْنٍ) أَيْ طَاعَةٍ (أَوْ قُبْحٍ) أَيْ مَعْصِيَةٍ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْعَاقِلِ مُلَازِمًا اللُّجُوءَ إلَى خَالِقِهِ إصْلَاحُ شَأْنِهِ وَتَوْفِيقُهُ إلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِطَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَلَا تَمْنَعُهُ الْمَعْصِيَةُ مِنْ اللُّجُوءِ إلَى خَالِقِهِ بَلْ يَلْجَأُ إلَيْهِ. (وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إذَا صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ تَوْبَةَ عَبْدِهِ كُلَّمَا يُذْنِبُ، وَلِأَنَّ الْيَأْسَ وَالْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ الْكَبَائِرِ فَفِي الْحَدِيثِ: «اعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك» فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا دُمْت تُذْنِبُ ثُمَّ تَتُوبُ غَفَرْت لَك، قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ الذَّنْبُ مِرَارًا وَتَابَ كُلَّ مَرَّةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَسَقَطَتْ ذُنُوبُهُ.

(تَنْبِيهٌ) اُعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي حَذْفِ عَائِدِ مَا الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى مَا فِيهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى مَا هُوَ فِيهِ لِأَنَّ الْعَائِدَ مُطْلَقًا لَا يُحْذَفُ إذَا كَانَ الْبَاقِي صَالِحًا لِلْوَصْلِ، وَالظَّرْفُ هُنَا فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فَهُوَ صَالِحٌ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَأَبَوَا أَنْ يَخْتَزِلَ ... إنْ صَلُحَ الْبَاقِي لِوَصْلٍ مُكْمِلٍ

وَلَمَّا كَانَ يُطْلَبُ مِنْ الْإِنْسَانِ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ عَجْزَ نَفْسِهِ فَيُفَوِّضَ أَمْرَهُ إلَى خَالِقِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ قَالَ: (وَالْفِكْرَةُ) أَيْ التَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ (فِي أَمْرِ اللَّهِ) أَيْ فِي مَصْنُوعَاتِهِ وَخَبَرُ الْفِكْرَةِ (مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ) لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا تَفَكَّرَ وَنَظَرَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>