للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِغَيْرِك بِذَنْبِهِ وَفِي سَالِفِ ذَنْبِك وَعَاقِبَةِ أَمْرِك وَمُبَادَرَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ مِنْ أَجَلِك.

ــ

[الفواكه الدواني]

مَصْنُوعَات خَالِقِهِ عَلِمَ وُجُوبَ وُجُودِهِ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ وَحَقِّيَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ فَيَجِدُّ فِي عِبَادَتِهِ «قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: ١٩٠] وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا عَبَدَ اللَّهَ ثَلَاثِينَ سَنَةً تُظِلُّهُ سَحَابَةٌ، فَعَبَدَ اللَّهَ فَتًى مِنْهُمْ فَلَمْ تُظِلُّهُ فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: لَعَلَّ وَقَعَ مِنْك فُرُطَةً، فَقَالَ: لَمْ يَقَعْ مِنِّي شَيْءٌ، قَالَتْ: لَعَلَّك نَظَرْت مَرَّةً إلَى السَّمَاءِ فَلَمْ تَعْتَبِرْ، قَالَ: لَعَلَّ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَمَا أُتِيتَ إلَّا مِنْ ذَلِكَ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْفِكْرَةُ فِي أَمْرِ إلَخْ أَنَّهُ لَا يَتَفَكَّرُ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى إدْرَاكِهَا، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمٍ اشْتَغَلُوا بِالتَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ: «تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ» فَالْأَدَبُ النَّظَرُ فِي عَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ نَفْسُ الشَّخْصِ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: ٢١] لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى وُجُوبِ وُجُودِ صَانِعِهِ لِاسْتِحَالَةِ إيجَادِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَتَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَتِي حَتَّى مَسَّ جِلْدُهُ جِلْدِي ثُمَّ قَالَ: ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَقَامَ إلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، مَا اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ حَتَّى أَتَى بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُبْكِيك وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا بِلَالُ وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَبْكِيَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: ١٩٠] الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» . وَقَالَ ابْنُ الْعَبَّاسِ: رَكْعَتَانِ مَعَ تَفَكُّرٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ بِلَا قَلْبٍ.

وَقَالَ أَيْضًا: التَّفَكُّرُ فِي الْخَيْرِ يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى الشَّرِّ يَدْعُو إلَى تَرْكِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَفَكَّرَ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ. وَبَيْنَا ابْنُ سُرَيْجٍ يَمْشِي إذْ جَلَسَ فَتَقَنَّعَ بِكِسَائِهِ وَجَعَلَ يَبْكِي، فَقُلْنَا: مَا يَبْكِيك؟ قَالَ: تَفَكَّرْت فِي ذَهَابِ عُمْرِي وَقِلَّةِ عَمَلِي وَاقْتِرَابِ أَجَلِي.

وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَالِ، فَإِنَّ النَّفْسَ شَمَخَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ الْعِبَادَةِ وَتَعَلَّقَتْ بِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا، فَإِذَا حَصَلَ التَّفَكُّرُ انْقَمَعَتْ وَرَجَعَتْ إلَى الْعِبَادَةِ. وَإِذَا عَلِمْتَ مَشْمَخَةَ النَّفْسِ عَنْ الْعِبَادَةِ وَاشْتَدَّ تَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا حَتَّى صَدَّتْهَا عَنْ الْآخِرَةِ (فَاسْتَعِنْ بِذَكَرِ الْمَوْتِ) عَلَى نَفْسِك لِأَنَّهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَفَكَّرَ فِي الْمَوْتِ قَصُرَ أَمَلُهُ وَكَثُرَ عَمَلُهُ وَاسْتَعَدَّ وَتَهَيَّأَ لِلْمَوْتِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، وَلِذَلِكَ يُطْلَبُ تَقْصِيرُ الْأَمَلِ إلَّا لِلْعَالِمِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» .

(وَ) اسْتَعِنْ عَلَى نَفْسِك أَيْضًا بِذِكْرِ (الْفِكْرَةِ فِيمَا بَعْدَهُ) أَيْ فِيمَا يَحْصُلُ لَك بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، وَالْعَذَابِ الَّذِي مِنْهُ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ الَّتِي لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إلَّا الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمُكْثِ فِي الْقَبْرِ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ مَعَ كَوْنِهِ وَحِيدًا، وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُرُورِ عَلَيْهِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ مَعَ كَوْنِهِ دَقِيقًا وَمَمْدُودًا عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ، فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي هَذِهِ الْعَظَائِمِ مُنَغِّصٌ وَمُزَهِّدٌ فِي الدُّنْيَا وَمُرَغِّبٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَمِنْ نُحِبُّ لِلْعَمَلِ لَهَا.

(وَ) اسْتَعِنْ أَيْضًا أَيُّهَا الْمُنْهَمِكُ عَلَى تَبْلِيغِ نَفْسِك مُشْتَهَاهَا بِالْفِكْرَةِ (فِي) إسْبَاغِ (نِعْمَةِ رَبِّك عَلَيْك) فَإِنَّك إذَا تَفَكَّرْت فِي ذَلِكَ تَسْتَحِي أَنْ تَعْصِيَهُ، لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يَسْتَرِقُّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى خِدْمَةِ سَيِّدِهِ. (وَ) إذَا لَمْ يَقْمَعْهَا التَّفَكُّرُ فِي النِّعْمَةِ اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالْفِكْرَةِ فِي (إمْهَالِهِ لَك) أَيْ تَأْخِيرِهِ لَك تَارِكًا عُقُوبَتَك عَلَى عِصْيَانِهِ. (وَأَخْذِهِ لِغَيْرِك) سَرِيعًا (بِذَنْبِهِ) مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ مِمَّنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِذَنْبِهِ سَرِيعًا، وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: إذَا رَأَيْت رَبَّك يُوَالِي عَلَيْك نِعَمَهُ فَاحْذَرْهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: ١٧٨] .

(وَ) إذَا لَمْ تَنْقَمِعْ نَفْسَك بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا سَبَقَ اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالتَّفَكُّرِ (فِي سَالِفِ ذَنْبِك) أَيْ فِي الذَّنْبِ الَّذِي سَلَفَ وَوَقَعَ مِنْك فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ وَاخْشَ الْمُعَاقَبَةَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ الْمُكَفِّرِ لِلذُّنُوبِ.

(وَ) إنْ لَمْ تَنْزَجِرْ وَتُنْقِذْ نَفْسَك اسْتَعِنْ بِالتَّفَكُّرِ فِي (عَاقِبَةِ أَمْرِك) لِأَنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تُخَيِّرَ نَفْسَك عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ، فَيَحْمِلُك ذَلِكَ عَلَى هَضْمِ النَّفْسِ وَتَرْكِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ، وَعَلَى عَدَمِ الْعَظَمَةِ عَلَى الْإِخْوَانِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الشَّخْصِ نَفْسَهُ رَفِيعًا عَنْ إخْوَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَمِنْ نُحِبُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الشَّخْصِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ دَائِمًا فِي حَضِيضِ النُّقْصَانِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ حَتَّى عِبَادَتِهِ، لِأَنَّ التَّوَاضُعَ ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّفْعَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ.

وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: اتَّضِعْ وَلَا تَرْتَفِعْ، وَاتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ مِنْ وَرَعٍ وَلَا يَتَّسِعُ.

(وَ) إذَا لَمْ يُكْسِبْك التَّفَكُّرُ فِيمَا مَضَى مَا يَقْمَعُ نَفْسَك عَنْ غَيِّهَا اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالتَّفَكُّرِ فِي (مُبَادَرَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ مِنْ أَجَلِك) وَالْمَعْنَى: خَوِّفْ نَفْسَك بِانْقِضَاءِ الْأَجَلِ سَرِيعًا، لِأَنَّك لَا تَدْرِي هَلْ بَقِيَ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>