مُخْتَصَرَةً.
مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ، مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ، وَتَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ
ــ
[الفواكه الدواني]
(تَنَبُّهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا أَتَى بِهَذَا الدُّعَاءِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ لِمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ الْمُلَازَمَةُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَلَا سِيَّمَا الشَّارِعُ فِي تَأْلِيفٍ يَنْبَغِي لَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُتَسَبِّبِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَنْ أَهْمَلَ الدُّعَاءَ فَقَدْ اُسْتُهْدِفَ لِلْبَلَاءِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» ، وَاقْتَصَرَ عَلَى تِينِك الدَّعْوَتَيْنِ لِأَجْلِ الِاخْتِصَارِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَسْطَهُ أَفْضَلُ مِنْ اخْتِصَارِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَدْعِيَةَ السَّلَفِ لَا تَزِيدُ عَلَى سَبْعِ كَلِمَاتٍ غَيْرِ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ، أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِمَا اتَّفَقَ مِنْهُمْ فَلَا يُنَافِي أَنَّ الزِّيَادَةَ أَفْضَلُ.
الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ هَلْ الْأَفْضَلُ لِلدَّاعِي التَّصْرِيحُ بِحَاجَتِهِ أَوْ عَدَمُ التَّصْرِيحِ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا فَإِنَّهُ شِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَلَا تَرَى أَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: ٨٣] فَعَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، وَكَذَا مُوسَى عِنْدَ قَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: ٢٤] .
الثَّالِثُ: آدَابُهُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنْ يُصْلِحَ لِسَانَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ بِأَدَبٍ حُصُولَ أَمْرٍ مُمْكِنٍ عَادَةً وَشَرْعًا فَلَا يَدْعُو بِمُسْتَحِيلٍ وَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ مِمَّا يُعَدُّ إسَاءَةَ أَدَبٍ فِي الْمُخَاطَبَاتِ لِوُجُوبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَلْحُونًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعْرَابِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يُقْبَلُ دُعَاءٌ مَلْحُونٌ» قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إلَّا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ غَيْرَهُ فَيُعْذَرُ.
(فَإِنَّك) الْفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ أَمَّا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
(سَأَلْتنِي) الْخِطَابُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِمُحْرَزٍ لِأَنَّهُ السَّائِلُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُ جُمْلَةِ " فَإِنَّك سَأَلْتنِي " جَوَابًا مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَقْبَلًا لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الشَّرْطِ، فَالشَّرْطُ سَابِقٌ عَلَيْهِ ضَرُورَةً وَالْوَاقِعُ هُنَا خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ سُؤَالَ مُحْرَزٍ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِسَأَلْتَنِي قَدْ وَقَعَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّك سَأَلْتنِي بِأَنَّهَا جَوَابٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ، وَالْجَوَابُ حَقِيقَةً مَحْذُوفٌ، وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ مَعْمُولَةٌ لَهُ أُقِيمَتْ وَمَقَامُهُ عِنْدَ حَذْفِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمَّا بَعْدُ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَى قَائِلٌ لَك إنَّك سَأَلْتنِي أَيْ طَلَبْت مِنِّي لِخُضُوعِ السَّائِلِ، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الطَّلَبِ يَكُونُ مَعَ اسْتِعْلَاءِ الطَّالِبِ أَمْرًا، وَمَعَ خُضُوعِهِ سُؤَالًا، وَمَعَ التَّسَاوِي الْتِمَاسًا.
وَلِبَعْضِ السُّؤَالِ وَالِالْتِمَاسِ يَكُونَانِ مِنْ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَالدُّعَاءُ طَلَبُ الْأَدْنَى مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَمْرُ عَكْسُهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ حُكْمَ السُّؤَالِ عَمَّا يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ مَعْرِفَتُهُ الْوُجُوبُ.
قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ وَاجِبٍ أَوْ كَانَ وَسِيلَةً لِنَفْعِ غَيْرِ السَّائِلِ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَالْيَاءُ فِي سَأَلْتنِي هِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي (أَنْ أَكْتُبَ لَك) يَا مُحْرَزُ وَالْمُرَادُ أُؤَلِّفُ لَك، وَعَدَلَ عَنْهُ إلَى أَكْتُبُ تَوَاضُعًا لِمَا فِي التَّعْبِيرِ بِالتَّأْلِيفِ مِنْ الْإِشْعَارِ بِالتَّعْظِيمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَأَيْضًا فِي التَّعْبِيرِ بِالْكِتَابَةِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ كِتَابَتَهُ لِئَلَّا يُعْتَمَدَ عَلَى الْمَكْتُوبِ وَيُتْرَكَ الْحِفْظُ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُخْتَلَفُ فِي الْجَوَازِ لِقِصَرِ الْهِمَمِ، وَلِذَلِكَ «قَالَ لِلَّذِي شَكَا إلَيْهِ سُوءَ الْحِفْظِ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِيَمِينِك» .
وَقَالَ سَحْنُونٌ: الْعِلْمُ صَيْدٌ وَالْكِتَابَةُ قَيْدٌ وَمَفْعُولُ أَكْتُبُ.
(جُمْلَةٌ) أَيْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَقْصُودَةِ لِلسَّائِلِ (مُخْتَصَرَةٌ) مِنْ الِاخْتِصَارِ بِمَعْنَى الْإِيجَازِ أَيْ قَلِيلَةُ اللَّفْظِ كَثِيرَةُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا طَلَبَهَا مُخْتَصَرَةً لِسُهُولَةِ حِفْظِ الْمُخْتَصَرِ وَضَبْطِهِ، وَتَرْغِيبًا لِلطَّالِبِ فِي تَنَاوُلِهَا.
وَلِبَعْضِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ وَهِيَ أَنَّ الِاخْتِصَارَ يَكُونُ فِي اللَّفْظِ وَالْإِيجَازَ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الِاقْتِصَارِ وَالِاخْتِصَارِ بِأَنَّ الِاقْتِصَارَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ وَتَرْكُ بَعْضِهِ وَالِاخْتِصَارُ تَجْرِيدُ اللَّفْظِ الْيَسِيرِ مِنْ الْكَثِيرِ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ. وَلِبَعْضِ الِاخْتِصَارِ حَذْفُ بَعْضِ الْكَلَامِ لِدَلِيلٍ، وَالِاقْتِصَارُ حَذْفُ بَعْضِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ) فَمِنْ دَاخِلَةٌ عَلَى وَاجِبٍ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْوَاجِبُ لَقَبٌ لِأَحَدِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَهُ أَلْقَابٌ أُخَرُ: الْفَرْضُ وَالْمَكْتُوبُ وَالْمُحَتَّمُ وَالْمُسْتَحَقُّ وَاللَّازِمُ فَهَذِهِ سِتَّةٌ.
وَأُمُورٌ جَمْعُ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ جُمِعَ عَلَى أَوَامِرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ إضَافَةِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ.
وَالدِّيَانَةُ مُفْرَدُ الدِّيَانَاتِ مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ إذَا طَاعَ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْأَمْرِ بِالشَّأْنِ لِأَجْلِ شُمُولِهِ لِلْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ أُمُورَ الدِّينِ الَّتِي سَيَذْكُرُهَا مِنْهَا الْقَوْلُ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَمِنْهَا الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ، وَمِنْهَا أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الدِّيَانَاتُ بِالْجَمْعِ أَوْرَدَ عَلَيْهَا أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ أَشْخَاصِ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَالْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَحْكَامِ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُذَمُّ تَارِكُهُ وَالْحَرَامُ عَكْسُهُ.
وَعَرَّفَ بَعْضُهُمْ الْوَاجِبَ بِأَنَّهُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ امْتِثَالًا وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ اخْتِيَارًا غَالِبًا فِيهِمَا.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا كُلُّ حَرَامٍ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، فَنَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ وِرْدُ الْغُصُوبَاتِ وَالدُّيُونِ وَالْعَوَارِيّ إذَا فَعَلَهَا