للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالتَّصَبُّرُ أَجْمَلُ لِمَنْ اسْتَطَاعَ وَيُنْهَى عَنْ الصُّرَاخِ وَالنِّيَاحَةِ

وَلَيْسَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ حَدٌّ وَلَكِنْ يُنْقَى وَيُغَسَّلُ وِتْرًا بِمَاءٍ

ــ

[الفواكه الدواني]

بَكَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ» فَالْمُرَادُ بِلَا بَأْسٍ الْجَوَازُ الْمَرْجُوحُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَ) لَكِنْ (حُسْنُ التَّعَزِّي وَ) هُوَ (التَّصَبُّرُ) وَالتَّجَلُّدُ وَالرِّضَى بِمَا حَكَمَ الْجَبَّارُ (أَجْمَلُ) أَيْ أَفْضَلُ وَأَحْسَنُ مِنْ الْبُكَاءِ بِالدُّمُوعِ (لِمَنْ اسْتَطَاعَ) قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ١٥٥] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: ١٥٦] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ مَعَهُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي عَلَى مُصِيبَتِي وَأَعْقِبْنِي خَيْرًا مِنْهَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قُلْت ذَلِكَ حِينَ مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، وَقُلْت: مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَزَوَّجْته» ، وَالصَّبْرُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ التَّصَبُّرُ أَحْسَنَ مِنْ الْبُكَاءِ فَلِمَ أَهْمَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَكَى عَلَى وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَّةِ، وَأَمَّا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيُؤْمَرُ بِفِعْلِ خِلَافِ الْأَفْضَلِ فِي حَقِّنَا لِلتَّشْرِيعِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْبُكَاءَ الْمَحْدُودَ وَهُوَ مُجَرَّدُ إرْسَالِ الدُّمُوعِ جَائِزٌ صَرَّحَ بِمُحْتَرَزِهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُنْهَى) قَرِيبُ الْمُحْتَضَرِ وَكُلُّ مَنْ يَتَأَثَّرُ بِفَقْدِهِ (عَنْ الصُّرَاخِ وَالنِّيَاحَةِ) وَسَائِرِ الْأَقْوَالِ الْقَبِيحَةِ، فَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ حَيْثُ اسْتَلْزَمَ أَمْرًا مُحَرَّمًا لِخَبَرِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَلَا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ» وَرُوِيَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَصَلَقَ وَخَرَقَ» وَالصَّلْقُ الصِّيَاحُ فِي الْبُكَاءِ وَقُبْحُ الْقَوْلِ.

وَرُوِيَ «أَنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» .

وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَحَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا إذَا أَوْصَاهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُكَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: جَائِزٌ مُطْلَقًا وَهُوَ مَا كَانَ بِمُجَرَّدِ إرْسَالِ الدُّمُوعِ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ، وَحَرَامٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا كَانَ بِالصَّوْتِ وَالْأَقْوَالِ الْقَبِيحَةِ، وَجَائِزٌ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا بَعْدَهُ وَهُوَ مَا كَانَ بِالصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ قَبِيحٍ مَعَهُ.

١ -

(خَاتِمَةٌ) مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يُنْدَبُ فِعْلُهُ مَعَ أَهْلِ الْمَيِّتِ مِنْهَا: تَعْزِيَتُهُمْ وَحَمْلُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَعَلَى الرِّضَى بِمُصِيبَتِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبِرِّ وَإِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ حَتَّى قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّ التَّعْزِيَةَ سُنَّةٌ وَقَدْ جَاءَ فِيهَا ثَوَابٌ كَثِيرٌ، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ اللَّهَ يُلْبِسُ الَّذِي عَزَّى مُصَابًا لِبَاسَ التَّقْوَى» وَجَاءَ: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ أَجْرٌ مِثْلُ أَجْرِهِ» وَصِفَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْمُعَزِّي لِلْمُصَابِ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك، وَأَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَك، وَغَفَرَ لِمَيِّتِك، وَعَزَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً فِي أَبِيهَا فَقَالَ: «إنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَبْقَى، وَلِكُلِّ أَجَلٍ مُسَمًّى وَكُلٌّ إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاحْتَسِبِي وَاصْبِرِي فَإِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ» وَتَكُونُ التَّعْزِيَةُ قَبْلَ الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ وَعِنْدَ الْقَبْرِ وَكَوْنُهَا فِي الْمَنْزِلِ وَبَعْدَ الدَّفْنِ أَحْسَنَ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَيِّتِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا فِي الْمُعَزَّى بِفَتْحِ الزَّايِ بَيْنَ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا حَيْثُ كَانَ جَارًا فَيُعَزَّى الْكَافِرُ بِالْكَافِرِ لِحَقِّ الْجِوَارِ وَيُقَالُ لَهُ: أَلْهَمَك اللَّهُ الصَّبْرَ وَعَوَّضَك خَيْرًا مِنْهُ، إلَّا الشَّابَّةَ وَاَلَّذِي لَا يُمَيِّزُ فَلَا يُعْزَيَانِ، وَيُعَزَّى الشَّخْصُ فِي كُلِّ مَنْ يَتَأَثَّرُ بِفَقْدِهِ أُمًّا أَوْ غَيْرَهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَتَنْتَهِي التَّعْزِيَةُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَزِّي أَوْ الْمُعَزَّى غَائِبًا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْنَعَ لَهُمْ طَعَامٌ أَوْ يُبْعَثَ إلَى مَحَلِّهِمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِمَيِّتِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَهْلِهِ حِينَ جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا وَابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِمْ فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَالِاعْتِنَاءِ، وَأَمَّا مَا يَصْنَعُهُ أَقَارِبُ الْمَيِّتِ مِنْ الطَّعَامِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُرْجَى خَيْرُهُ لِلْمَيِّتِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ الْأَكْلُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَنَعَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ بَالِغًا رَشِيدًا فَلَا حَرَجَ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِفِعْلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي ثُلُثِهِ وَيَجِبُ تَنْفِيذُهُ عَمَلًا بِفَرْضِهِ، وَأَمَّا عَقْرُ الْبَهَائِمِ وَذَبْحُهُمْ عَلَى الْقَبْرِ وَحَمْلُ الْخُبْزِ وَيُسَمُّونَهُ بِعَشَاءِ الْقَبْرِ فَإِنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ وَمِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» وَلِأَدَائِهِ إلَى الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالْمَطْلُوبُ فِي فِعْلِ الْقُرَبِ الْإِخْفَاءُ، وَالصَّوَابُ فِي فِعْلِ هَذَا التَّصَدُّقُ بِهِ فِي الْمَنْزِلِ حَيْثُ سَلِمَ مِنْ قَصْدِ الْمُبَاهَاةِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْحَطَّابِ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ.

وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمُحْتَضَرِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ) أَيْ الَّذِي يُطْلَبُ تَغْسِيلُهُ (حَدٌّ) وَاجِبٌ بِحَيْثُ يُمْنَعُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ عَنْهُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَلَكِنْ) الْمَطْلُوبُ أَنْ (يُنَقَّى) مِنْ الْقَذَرِ وَيُعَمَّ جَسَدُهُ بِالْمَاءِ، وَنَفْيُ الْحَدِّ الْوَاجِبِ لَا يُنَافِي نَدْبَ التَّحْدِيدِ بِالْوِتْرِ كَمَا يَأْتِي، وَقَوْلُنَا: الَّذِي يُطْلَبُ تَغْسِيلُهُ احْتِرَازًا عَنْ شَهِيدِ الْمُعْتَرَكِ وَعَنْ الْكَافِرِ وَعَنْ السِّقْطِ وَعَنْ مَنْ فُقِدَ أَكْثَرُهُ فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَلْ يَحْرُمُ تَغْسِيلُ الْكَافِرِ وَشَهِيدِ الْحَرْبِ، وَيُكْرَهُ تَغْسِيلُ السِّقْطِ وَمَنْ غَابَ أَكْثَرُهُ، وَيَكْفِي فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ الْإِسْلَامُ الْحُكْمِيُّ فَيَدْخُلُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِإِسْلَامِ صَاحِبِهِ أَوْ أَبِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلْغُسْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>