بَابٌ فِي الْجِهَادِ وَالْجِهَادُ فَرِيضَةٌ يَحْمِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ.
وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ لَا يُقَاتَلَ الْعَدُوُّ حَتَّى يُدْعَوْا إلَى دِينِ اللَّهِ إلَّا أَنْ
ــ
[الفواكه الدواني]
(بَابٌ فِي) أَحْكَامِ (الْجِهَادِ) وَهُوَ لُغَةً: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ لِأَخْذِهِ مِنْ الْجَهْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَشَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قِتَالُ مُسْلِمٍ كَافِرًا غَيْرَ ذِي عَهْدٍ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ أَوْ حُضُورُهُ لَهُ أَوْ دُخُولُهُ أَرْضِهِ لَهُ، فَيَخْرُجُ قِتَالُ الذِّمِّيِّ إذَا حَارَبَ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ نَقْضٍ، وَقَوْلُهُ: أَوْ حُضُورُهُ أَوْ دُخُولُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى قِتَالٍ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَالضَّمِيرُ فِي حُضُورِهِ وَدُخُولِهِ لِلْمُسْلِمِ، وَفِي لَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْقِتَالِ، وَأَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَعَمُّ مِنْ الْمُقَاتَلَةِ فَيُسْهِمُ لِمَنْ حَضَرَ الْمُنَاشَبَةَ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقَوْلُهُ: لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ قَاتَلَ لِلْغَنِيمَةِ أَوْ لِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ لَمْ يَكُنْ مُجَاهِدًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْغَنِيمَةَ حَيْثُ أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهَا حَيْثُ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ.
قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَانْظُرْهُ مَعَ قَوْلِ خَلِيلٍ، وَقَسَّمَ الْأَرْبَعَةَ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ حَاضِرٍ كَتَاجِرِ وَأَجِيرٍ إنْ قَاتَلَا أَوْ خَرَجَا بِنِيَّةِ غَزْوٍ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ قَاتَلَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، إذْ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَزَادُوهُ عَلَى تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْجِهَادِ حَتَّى يُسْهَمَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ مُعْتَبَرًا بِالنَّظَرِ لِلثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْجِهَادِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يُسْهَمَ لَهُ وَحَرِّرْ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّ الْفِقْهَ نَقْلِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَعَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ يَكُونُ شَهِيدُ الْحَرْبِ أَعَمَّ مِنْ الْمُجَاهِدِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ شَهِيدَ الْحَرْبِ يَشْمَلُ مَنْ قَاتَلَ لِخُصُوصِ الْغَنِيمَةِ وَيُقَالُ لَهُ شَهِيدُ دُنْيَا فَقَطْ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَشْمَلُ مَنْ قَتَلَهُ الْحَرْبِيُّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، اُنْظُرْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَا يُغَسَّلُ شَهِيدُ مُعْتَرَكٍ فَقَطْ، وَلَوْ بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ.
وَالْجِهَادُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ، فَقَدْ وَرَدَ: «أَنَّ الشَّهِيدَ يَوَدُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْجِهَادِ لِمَا يَرَاهُ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» . وَرُوِيَ أَيْضًا: «مَا جَمِيعُ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ، وَمَا جَمِيعُ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْجِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ» ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجِهَادُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ عِبَادِ اللَّهِ وَتَعْذِيبُهُمْ وَتَخْرِيبُ بِلَادِ اللَّهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إعْزَازِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَشُرِعَ إعْدَامًا لِلْكَافِرِينَ، وَإِحْيَاءً لِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: جِهَادٍ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ مُجَاهَدَةُ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ. وَجِهَادٍ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَجِهَادٍ بِالْيَدِ، وَهُوَ زَجْرُ الْأُمَرَاءِ أَهْلَ الْمُنَاكِرِ بِالْأَدَبِ وَالضَّرْبِ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَمِنْهُ إقَامَةُ الْحُدُودِ. وَجِهَادٍ بِالسَّيْفِ، وَلَا يَنْصَرِفُ حَيْثُ أُطْلِقَ إلَّا إلَيْهِ، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: (وَالْجِهَادُ) أَيْ الْخُرُوجُ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ (فَرِيضَةٌ) فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ حُرٍّ، وَلَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ خِطَابِهِمْ مُسْتَطِيعٍ لِلْقِتَالِ وَوَاجِدٍ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ. .
(يَحْمِلُهُ) أَيْ الْجِهَادَ (بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ) ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَحَقِيقَتُهُ مُهِمٌّ يُقْصَدُ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى فَاعِلِهِ بِالذَّاتِ مَعَ الْإِثْمِ بِتَرْكِهِ، فَيَخْرُجُ فَرْضُ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَنْظُورٌ بِالذَّاتِ إلَى فَاعِلِهِ حَيْثُ قَصَدَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ بِعَيْنِهِ، أَوْ مَنْ عَيَّنَهُ الشَّارِعُ بِخُصُوصِهِ كَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِ دُونَ أُمَّتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ - إنْ لَمْ يَكُنْ إمَامٌ - إخْرَاجُ طَائِفَةٍ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيَتَوَجَّهُونَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَثُرَ الْعَدُوُّ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَإِنْ تَسَاوَتْ الْجِهَاتُ خَوْفًا، فَالنَّظَرُ لِلْإِمَامِ فِي الْخُرُوجِ فِي أَيِّ جِهَةٍ إنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ الْجَمِيعِ، وَإِلَّا وَجَبَ سَدُّ الْجِهَاتِ كُلِّهَا بِالْمُجَاهِدِينَ.
قَالَ خَلِيلٌ: الْجِهَادُ فِي أَهَمِّ جِهَةٍ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنْ خَافَ مُحَارِبًا، كَزِيَارَةِ الْكَعْبَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَلَوْ مَعَ وَالٍ جَائِرٍ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْكُفَّارِ لَا يُعَادِلُهُ ضَرَرٌ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْجِهَادُ إلَّا بِشُرُوطٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهِيَ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ وَوُجُودُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ، وَفِي الْإِسْلَامِ خِلَافٌ وَيَسْقُطُ بِأَضْدَادِهَا.
قَالَ خَلِيلٌ: وَسَقَطَ بِمَرَضٍ وَصِبًى وَجُنُونٍ وَعَمًى وَعَرَجٍ وَأُنُوثَةٍ وَعَجْزٍ عَنْ مَا سَيَحْتَاجُ وَرِقٍّ وَدَيْنٍ حَلَّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيصَالِهِ إلَى رَبِّهِ لِغَيْبَتِهِ، وَلَا وَكِيلَ مِنْ قَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا مَا لَا يَحِلُّ فِي غَيْبَتِهِ وَيُوَكِّلُ فِي قَضَاءِ مَا يَحِلُّ وَيَخْرُجُ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْوَفَاءِ قَهْرًا عَلَى صَاحِبِهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute