للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَخَذَهَا كَانَ كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ.

وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَلَ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ الْبَاطِلِ الْغَصْبُ وَالتَّعَدِّي وَالْخِيَانَةُ وَالرِّبَا وَالسُّحْتُ وَالْقِمَارُ وَالْغَرَرُ وَالْغِشُّ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِلَابَةُ،

وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ،

ــ

[الفواكه الدواني]

وَمَنْ أَخَذَهَا) أَيْ اسْتَعْمَلَهَا (كَانَ كَالرَّاتِعِ) أَيْ الرَّاعِي (حَوْلَ الْحِمَى) أَيْ الْمَحَلِّ الْمَحْمِيِّ لِغَيْرِهِ (يُوشِكُ) أَيْ يَقْرُبُ (أَنْ يَقَعَ فِيهِ) سَرِيعًا وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنُهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» الْحَدِيثَ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ حِلَّ بَعْضِ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ بَعْضَ أَشْيَاءَ بَيَانًا ظَاهِرًا بِحَيْثُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَبَقِيَتْ أَشْيَاءُ اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ لِتَعَارُضِ أَدِلَّةِ الْحِلِّ وَالتَّحْرِيمِ فِيهَا وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَمَعْنَى اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَطَلَبَ الْبَرَاءَةَ لِدِينِهِ، وَمَعْنَى الْوُقُوعِ فِي الْمُتَشَابِهِ اسْتِعْمَالُهُ لِقَوْلِهِ: «وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» ، وَالْوَاقِعُ فِي الْحَرَامِ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ سَطْوَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ رَعَى فِي حِمَى غَيْرِهِ مِنْ سَطْوَةِ مَالِكِهِ، وَالْحِمَى الْمَحَلُّ الَّذِي يَحْمِيهِ صَاحِبُ الشَّوْكَةِ وَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ الرَّعْيِ فِيهِ، وَالْقَصْدُ مِنْ الْحَدِيثِ الدَّلَالَةُ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُتَشَابِهِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى اسْتِعْمَالِ مُحَقَّقِ الْحَمْلِ.

(تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ بِمَا تَعَارَضَتْ فِيهِ أَدِلَّةُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ أَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ أَنَّ الْحَلَالَ مَا اتَّفَقَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى حِلِّهِ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ الْحَلَالِ بِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِلَّهِ وَلَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَا جُهِلَ أَصْلُهُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ جَهْلُهُ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْفَاكِهَانِيِّ: لَا يَنْبَغِي الْيَوْمَ السُّؤَالُ عَنْ الْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَصْلَهُ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ عَلَى حِلِّهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ، وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى حِلِّهِ وَاخْتُلِفَ هَلْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ جَائِزَةٌ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَوْجُهُ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ النَّهْبُ وَالْغَصْبُ وَنَدَرَ فِيهِ الْحَلَالُ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، وَلَمَّا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِأَكْلِ الْحَلَالِ وَكَانَ الْأَمْرُ يَقَعُ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ:

(وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْلَ) أَيْ تَنَاوُلَ (الْمَالِ) الْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ اخْتِيَارًا (بِالْبَاطِلِ) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي الْحِلَّ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: ١٨٨] وَلِذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ الْبَيْعَ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ الشَّخْصُ إلَى إبَاحَةِ مَالِ غَيْرِهِ، وَقَيَّدْنَا بِالْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نَحْوِ السَّمَكِ وَثِمَارِ الْجِبَالِ وَحَيَوَانِهَا الَّذِي يُصَادُ مِنْهَا فَإِنَّ الْجَمِيعَ حَلَالٌ، وَبِالِاخْتِيَارِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ حَالِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مَالُ الْغَيْرِ وَلِوُجُوبِ مُوَاسَاةِ الْمُضْطَرِّ، وَيُقَدَّمُ مَالُ الْغَيْرِ عَلَى الْمَيْتَةِ وَيُقَاتِلُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ لَهُ سَرِقَتُهُ إنْ لَمْ يَخَفْ الْقَطْعَ وَنَحْوَهُ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْ مَالِكِهِ وَلَوْ بِالشِّرَاءِ وَيَمْتَنِعُ، وَلَا ثَمَنَ عَلَى الْمُضْطَرِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ.

(تَنْبِيهٌ) وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَكْلِ مِمَّا يَمُرُّ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ نَحْوِ الْفُولِ وَالْفَوَاكِهِ وَلَبَنِ الْغَنَمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَمُحَصِّلُهُ الْجَوَازُ لِلْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْتَاجِ فَقِيلَ بِالْجَوَازِ وَقِيلَ بِعَدَمِهِ، وَثَالِثُهَا الْجَوَازُ لِلصِّدِّيقِ دُونَ غَيْرِهِ، وَرَابِعُهَا يَجُوزُ فِي اللَّبَنِ دُونَ الْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْعُ لِعُمُومِ: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْعُمُومِ، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْحِسُّ وَالْعِيَانُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِوَضْعِهِمْ الْحَرَسَ عَلَى نَحْوِ الْفُولِ وَالذُّرَةِ وَسَائِرِ الثِّمَارِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ الْبَاطِلِ الْغَصْبُ) لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَتِهِ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ قَهْرًا تَعَدِّيًا بِلَا حِرَابَةٍ.

(وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (التَّعَدِّي) وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ تَمَلُّكِ الذَّاتِ، وَمِنْهُ التَّجَاوُزُ عَنْ الْمَأْذُونِ فِيهِ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمُتَعَدِّي جَانٍ عَلَى بَعْضٍ غَالِبًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ تَمَلُّكِ الذَّاتِ لِيَمْتَازَ عَنْ الْغَصْبِ.

(وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (الْخِيَانَةُ) وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ الْمَحَلِّ الْمَأْذُونِ فِي دُخُولِهِ لِلْآخِذِ، كَأَخْذِ الضَّيْفِ أَوْ أَخْذِ الْأَمِينِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي ائْتُمِنَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِيَانَةُ أَنْ يَخُونَ الشَّخْصُ غَيْرَهُ فِي أَمَانَتِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي مَحْرَمِهِ وَتَكُونُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرَّمَ خِيَانَةَ أَسِيرٍ ائْتُمِنَ طَائِعًا، وَقَدْ تُطْلَقُ الْخِيَانَةُ عَلَى إظْهَارِ مَا خَالَفَ الْوَاقِعَ، كَأَنْ يُظْهِرَ الشَّخْصُ أَنَّهُ عَالِمٌ أَوْ صَالِحٌ أَوْ زَاهِدٌ وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ هَذَا. (وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (الرِّبَا) بِالْقَصْرِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ كَبَيْعٍ أَوْ إقْرَاضِ دِرْهَمٍ بِاثْنَيْنِ أَوْ النَّسَاءِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ فِي نَقْدٍ وَطَعَامٍ رِبَا فَضْلٍ وَنَسَاءٍ.

(وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (السُّحْتُ) وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالرِّشْوَةِ عَلَى إمْضَاءِ الْحُكْمِ وَبِمَا يَأْخُذُهُ الشَّاهِدُ عَلَى شَهَادَتِهِ.

وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَهُوَ مَا تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَزْنِي بِهَا، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَالْقِرْدِ وَالسُّؤَالُ لِلتَّكْثِيرِ، وَثَمَنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>