وَلَا بَأْسَ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَيَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا إذَا دُبِغَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُبَاعُ وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ إذَا ذُكِّيَتْ وَبَيْعِهَا وَيُنْتَفَعُ بِصُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا وَمَا يُنْزَعُ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} . (إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ) الشَّخْصُ (إلَى) أَكْلِ (ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ نَحْوِ الْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ (كَالْمَيْتَةِ) بِغَيْرِ تَرَدٍّ وَنَحْوِهِ. (وَذَلِكَ) أَيْ عَدَمُ حِلِّهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِشَرْطٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ. (إذَا صَارَتْ) أَيْ الْمُتَرَدِّيَةُ وَمَا مَعَهَا (بِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ التَّرَدِّي وَالْخَنْقِ (إلَى حَالٍ لَا حَيَاةَ) مَرْجُوَّةَ لَهَا (بَعْدَهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْفُذَ التَّرَدِّي أَوْ الْخَنْقُ مَقْتَلَهَا بِأَنْ قَطَعَ نُخَاعَهَا أَوْ نَثَرَ دِمَاغَهَا أَوْ حَشْوَتَهَا. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ كَالْمَيْتَةِ قَوْلَهُ: (فَلَا ذَكَاةَ) تَصِحُّ (فِيهَا) وَلَا يُنْظَرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَيَاةِ بَعْدَ إنْفَاذِ مَقْتَلِهَا لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهَا، وَلَا يُقَالُ: الْمَأْيُوسُ مِنْ حَيَاتِهِ تُعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَأْيُوسُ مِنْ حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ إنْفَاذِ مَقْتَلٍ تُمْكِنُ حَيَاتُهُ بِصِحَّتِهِ، بِخِلَافِ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ تَسْتَحِيلُ حَيَاتُهُ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَيِّتِ بِالْفِعْلِ وَالْمَيِّتُ لَا تُعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ فَافْهَمْ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: إذَا صَارَتْ إلَخْ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَصِرْ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بِأَنْ نُطِحَتْ أَوْ تَرَدَّتْ أَوْ خُنِقَتْ وَلَمْ يَنْفُذْ مَقْتَلٌ مِنْ مَقَاتِلِهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ ذَكَاتُهَا لِقَوْلِ خَلِيلٍ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ: وَفِيهَا أَكْلُ مَا دُقَّ عُنُقُهُ أَوْ مَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إنْ لَمْ يَنْخَعْهَا، وَلَمَّا اُخْتُلِفَ فِي دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ السَّابِقَةِ فِي قَوْله: إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) أَنْ يُؤْذَنَ (لِلْمُضْطَرِّ) وَهُوَ مَنْ وَصَلَ فِي الْجُوعِ إلَى مَا لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ (أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ) وَيَشْرَبَ سَائِرَ الْمَائِعَاتِ النَّجِسَةِ سِوَى مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ وَسِوَى الْخَمْرِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرَ آدَمِيٍّ وَخَمْرٍ إلَّا لِغُصَّةٍ، وَقَدَّمَ الْمَيِّتَ عَلَى خِنْزِيرٍ وَصَيْدٍ لِمُحْرِمٍ لَا عَلَى لَحْمِهِ، وَأَمَّا مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ فَلَا تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ، وَصَحَّحَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَكْلَهَا.
قَالَ خَلِيلٌ: وَالنَّصُّ عَدَمُ جَوَازِ أَكْلِهِ لِمُضْطَرٍّ وَصَحَّحَ أَكْلَهُ أَيْضًا، وَلَا فَرْقَ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَيَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَوْ كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، بِخِلَافِ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، وَفَسَّرْنَا لَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ لِوُجُوبِ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ الْمَيْتَةَ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ عَلَى إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي صِفَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ بَيْنَ الْمَشْهُورِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ لَهُ إذَا أَكَلَ الْمَيْتَةَ أَنْ (يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ) إلَى مَحَلٍّ يُظَنُّ فِيهِ وُجُودَ مَا يُغْنِي عَنْهَا مِنْ الْمُبَاحِ وَلَوْ بِالشِّرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ. (فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا) وُجُوبًا هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَبِهِ الْفَتْوَى، وَمُقَابِلُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ وَهُوَ ضَعِيفٌ حَتَّى اعْتَرَضُوا عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ، وَادَّعَوْا بِأَنَّهُ مُصَحَّفُ يُشْبِعُ وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ سَاكِتًا عَنْ التَّزَوُّدِ، فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُوفٍ بِالْمَشْهُورِ.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ كَمَا يُبَاحُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ لِجُوعِهِ يُبَاحُ لَهُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ النَّجِسَةِ لِعَطَشِهِ سِوَى الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْعَطَشِ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ وَإِنْ بَحَثَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَأَمَّا شُرْبُهُ لِإِسَاغَةِ الْغُصَّةِ فَيَجُوزُ عَلَى كَلَامِ خَلِيلٍ وَيَحْرُمُ عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ.
الثَّانِي: قَدْ أَسَلَفْنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ يُقَدِّمُ طَعَامَ الْغَيْرِ عَلَى الْمَيْتَةِ إنْ لَمْ يَخَفْ الْقَطْعَ، لَكِنْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يُذْهِبُ أَلَمَ الْجُوعِ فَلَا يَشْبَعُ وَلَا يَتَزَوَّدُ وَلَا ثَمَنَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَرَاجِعْ مَا سَبَقَ.
وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ عَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ عَدَمُ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مُطْلَقًا قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا) أَيْ مَيْتَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ (إذَا دُبِغَ) بِمَا أَزَالَ الرِّيحَ وَالدُّسُومَةَ وَالرُّطُوبَةَ وَحَفِظَهُ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَرَخَّصَ فِيهِ مُطْلَقًا إلَّا مِنْ خِنْزِيرٍ بَعْدَ دَبْغِهِ فِي يَابِسٍ وَمَاءٍ، وَأَمَّا فِي الْمَائِعَاتِ غَيْرِ الْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَهُ قُوَّةُ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الدَّبْغُ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَلَوْ بَعْدَ الدَّبْغِ لِشَرَفِ الْآدَمِيِّ وَقَذَارَةِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ عَدَمِ طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» لِحَمْلِهِ عِنْدَنَا عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَهِيَ النَّظَافَةُ لَا الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى مُطْلَقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ كَاسْتِحَالَةِ الذَّاتِ النَّجِسَةِ، كَانْقِلَابِ الْخَمْرِ خَلًّا، وَالدَّمِ مِسْكًا أَوْ لَبَنًا، وَالنَّجَاسَةِ رَمَادًا عَلَى كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ، وَالدِّبَاغُ لَا يُحِيلُ الْجِلْدَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا) يَصِحُّ أَنْ (يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا) أَنْ (يُبَاعَ) لِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِيمَا يُصَلَّى فِيهِ وَمَا يُبَاعُ قَالَ خَلِيلٌ: وَشُرِطَ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ طَهَارَةٌ، وَشُرِطَ لِصَلَاةٍ طَهَارَةُ حَدَثٍ وَخَبَثٍ، وَلَمَّا كَانَ جِلْدُ مَكْرُوهِ الْأَكْلِ كَجِلْدِ مُبَاحِ الْأَكْلِ بِالذَّكَاةِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ) وَهِيَ كُلُّ مَا لَهُ جَرَاءَةٌ أَيْ شِدَّةٌ عَلَى الِافْتِرَاسِ وَالْعَدَاءِ بِشَرْطٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إذَا ذُكِّيَتْ) وَلَوْ بِقَصْدِ أَخْذِ جِلْدِهَا فَقَطْ.
(وَ) كَذَا لَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِي (بَيْعِهَا) وَأَوْلَى غَيْرُ الْبَيْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ