. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
لَكِنَّ نَحْوَ السُّلْطَانِ صِفَةُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَنْ يُعَرِّفَ الْمَأْمُورَ أَوْ الْمَنْهِيَّ بِذَلِكَ، فَإِنْ امْتَثَلَ بِمُجَرَّدِ التَّعَرُّفِ وَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ هَدَّدَهُ بِالضَّرْبِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ ضَرَبَهُ بِالْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَشْهَرَ لَهُ السِّلَاحَ إنْ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ مَرْتَبَةٍ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ إفَادَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا غَيْرُ نَحْوِ السُّلْطَانِ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِالْقَوْلِ الْأَرْفَقِ فَالْأَرْفَقِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) الْمُكَلَّفُ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِيَدِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ سُلْطَانٍ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِنْ نَحْوِ الْأَبِ وَالسَّيِّدِ وَالزَّوْجِ لِأَنَّ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ لَا يَأْمُرُ بِالْيَدِ، وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَدَمُ التَّمَكُّنِ شَرْعًا مِنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِالْيَدِ. (فَبِلِسَانِهِ) أَيْ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى بِلِسَانِهِ. (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) عَلَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِلِسَانِهِ لِشِدَّةِ صَوْلَةِ مَنْ يُرَادُ أَمْرُهُ أَوْ نَهْيُهُ (فَبِقَلْبِهِ) أَيْ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى بِقَلْبِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كُنْت أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِيَدِي أَوْ لِسَانِي لَفَعَلْت، وَيَبْغَضُ ذَلِكَ مَعَ تَرْكِ مُخَالَطَةِ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمُنْكَرِ إنْ اسْتَطَاعَ، وَإِلَّا انْتَقِلْ إلَى الْمُدَارَاةِ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَمَشْرُوعَةٌ لِخَبَرِ: «أُمِرْت بِالْمُدَارَاةِ لِلنَّاسِ كَمَا أُمِرَتْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ» وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بَذْلُ الدُّنْيَا لِحِفْظِ الدِّينِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْجَاهِ، بِخِلَافِ الْمُدَاهَنَةِ فَإِنَّهَا بَذْلُ الدِّينِ لِحِفْظِ الدُّنْيَا وَهِيَ حَرَامٌ إلَّا لِمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ. وَفَرِيضَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١٠٤] . وَ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: ١١٠] الْآيَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» أَيْ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَهُ كَانُوا يَتَوَاصَوْنَ بِذَلِكَ وَيَنْهَوْنَ تَارِكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ قُلْت: فَمَا الْجَوَابُ عَنْ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: ١٠٥] وقَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: ٢٥٦] وَعَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى لَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْبُخْلُ فِي خِيَارِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي أَرْذَالِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الِادِّهَانُ فِي كِبَارِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ» . فَالْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ لِلْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ عَدَمَ الضَّرَرِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَضُرُّ النَّاهِيَ عِنَادُهُمْ وَإِصْرَارُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِآيَةِ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: ٢٥٦] بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ عِنْدَ فَوَاتِ الشَّرْطِ بِلُزُومِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْكِفَايَةِ إنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ وَأَمَّا بِالْقَلْبِ فَفَرْضُ عَيْنٍ، وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شُرُوطًا، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، فَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا الْمُنْكَرِ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى. وَثَانِيهَا: أَنْ يَأْمَنَ أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ إلَى مُنْكِرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْإِفَادَةُ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، فَالْأَوَّلَانِ لِلْجَوَازِ وَالثَّالِثُ لِلْوُجُوبِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَجَسُّسٍ وَلَا اسْتِرَاقِ سَمْعٍ وَلَا بَحْثٍ بِوَجْهٍ كَتَفْتِيشِ دَارٍ أَوْ ثَوْبِهِ لِحُرْمَةِ السَّعْيِ فِي ذَلِكَ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا كَالنَّبِيذِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّ يَقُولُ بِحِلِّهِ فَمَنْ فَعَلَ الْمُخْتَلَفَ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ التَّحْرِيمُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَقْلِيدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الْحُرْمَةِ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، كَالْمَالِكِيِّ يَأْكُلُ الْبَصَلَ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُ الْمُخَالِفِ فِيهِ ضَعِيفًا فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُنْكَرُ عَلَى مُعْتَقِدِ حِلِّهِ حَيْثُ كَانَ يَنْقُضُ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقَاطِعٍ أَوْ جَلِيِّ قِيَاسٍ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ كَانَ جَاهِلًا وَالْمُدْرِكُ فِي الْحِلِّ وَعَدَمِهِ مُتَوَازٍ فَإِنَّهُ يُرْشِدُ لِلتَّرْكِ بِرِفْقٍ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَلَا تَوْبِيخٍ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الشُّرُوطَ خَمْسَةٌ وَلَيْسَ مِنْهَا عَدَالَةُ الْآمِرِ وَلَا إذْنُ الْإِمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَيَجِبُ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنْ شُرْبِهِ، نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: يَنْبَغِي لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ بِصُورَةِ مَنْ يُقْبَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالَمِ عِنْدَ نَزْعِ عِمَامَتِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهَا، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِالرِّفْقِ، فَلَا يُرْتَكَبُ فِي ذَلِكَ غَلِيظُ الْقَوْلِ وَلَا الشَّتْمُ إلَّا فِي نَحْوِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ كَمَا مَرَّ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: وُجُوبُ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُ الْمُتَلَبِّسِ بِهِ عَاصِيًا بَلْ الشَّرْطُ كَوْنُهُ مَعْصِيَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاجِبَةَ الدَّرْءِ لِمَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ لَبَنًا، أَوْ تَرَكَ أَمْرًا وَاجِبًا فِعْلُهُ كَصَلَاةِ فَرْضٍ قَبْلَ عِلْمِهِ بِفَرْضِيَّتِهَا فَيَجِبُ النَّهْيُ وَالْأَمْرُ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ عِصْيَانِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ تَأْمُرُ وَتَنْهَى أُمَمَهَا أَوَّلَ بَعْثَتِهَا، وَمَعْلُومٌ عَدَمُ عِصْيَانِهِمْ إذْ ذَاكَ.
الثَّانِي: يَجِبُ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِمَا عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ أَوْ الْمَنْهِيُّ جَمَاعَةً لَوَجَبَ خِطَابُهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute