أَكَلْت مِمَّا يَلِيك
وَلَا تَأْخُذْ لُقْمَةً حَتَّى تَفْرُغَ الْأُخْرَى
وَلَا تَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ عِنْدَ شُرْبِك وَلْتُبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيك ثُمَّ تُعَاوِدْهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
لِلنَّفَسِ) لِاعْتِدَالِ الْجَسَدِ وَخِفَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الشِّبَعِ ثِقَلُ الْبَدَنِ وَهُوَ يُورِثُ الْكَسَلَ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْلِ لَمَا بَقِيَ لِلنَّفَسِ مَوْضِعٌ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهِ، وَلِمَا وَرَدَ: «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحَمِيَّةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَأَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ. وَالْحَمِيَّةُ خُلُوُّ الْبَطْنِ مِنْ الطَّعَامِ، وَالْبَرَدَةُ إدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ، وَلَفْظُ الْمَعِدَةِ» إلَخْ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَدْخَلَهُ بَعْضُ الْوُضَّاعِ فِي الْمُسْنَدِ الْمَرْفُوعِ تَرْوِيجًا لَهُ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ:
وَالْوَاضِعُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا ... مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَبَعْضٌ وَضَعَا
كَلَامُ بَعْضِ الْحُكْمَا فِي الْمُسْنَدِ
قَالَ شَارِحُهَا تَرْوِيجًا لَهُ مِنْهُ الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ إلَخْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْ كَلَامِهِمْ أَيْضًا مَا قَالَهُ مَالِكٌ: وَمِنْ طِبِّ الْأَطِبَّاءِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَك مِنْ الطَّعَامِ وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثْرَةُ الْأَكْلِ لَا خَيْرَ فِيهَا لِإِنْسَانٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَدْهَمَ: صَحِبْت أَكْثَرَ رِجَالِ اللَّهِ وَقَدْ أَوْصَوْنِي بِأَنْ أَعِظَ غَيْرِي بِأَرْبَعِ خِصَالٍ: إحْدَاهَا أَنَّ مَنْ يُكْثِرُ الْأَكْلَ لَا يَجِدُ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ يَنَامُ كَثِيرًا لَمْ يَرَ فِي عُمْرِهِ بَرَكَةً، وَمَنْ يَطْلُبُ رِضَا النَّاسِ لَا يَنْتَظِرُ رِضَا الرَّبِّ، وَمَنْ يُكْثِرُ الْكَلَامَ بِفُضُولٍ وَغِيبَةٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ سَهْلٌ: الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي خِصَالٍ أَرْبَعٍ بِهَا صَارَتْ الْأَبْدَالُ أَبْدَالًا: إخْمَاصُ الْبُطُونِ، وَالصَّمْتُ، وَالْعُزْلَةُ عَنْ الْخَلْقِ، وَسَهَرُ اللَّيْلِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: كُلُّ شَيْءٍ يَعْمَلُ عَلَى الشِّبَعِ إلَّا ابْنَ آدَمَ إذَا شَبِعَ رَقَدَ، وَأَيْضًا قَالُوا: الشِّبَعُ مِنْ الْحَلَالِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُقِلُّ الْحِفْظَ، وَيُفْسِدُ الْعَقْلَ، وَيُكْثِرُ الشَّهْوَةَ، وَيُقَوِّي جُنُودَ الشَّيْطَانِ، وَفَسَدَ الْجَسَدِ، فَمَا بَالُك بِالْحَرَامِ؟ وَبِالْجُمْلَةِ: الشِّبَعُ مَمْدُوحٌ فِي الْبَهَائِمِ وَمَذْمُومٌ فِي حَقِّ ابْنِ آدَمَ، وَيُعْرَفُ الثُّلُثُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ثُلُثِ مَا كَانَ يَشْبَعُ بِهِ، وَقِيلَ يُعْرَفُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نِصْفِ الْمُدِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُضْعِفُهُ قِلَّةُ الشِّبَعِ، وَإِلَّا فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ اسْتِعْمَالُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ النَّشَاطُ لِلْعِبَادَةِ وَاعْتِدَالُ الْبَدَنِ. وَمِنْ خَطِّ عَلَّامَةِ الزَّمَانِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيِّ الْأَكْلُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَى الصِّيَامِ الْوَاجِبِ أَوْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَاجِبٌ، وَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَةِ الْغَيْرِ الْوَاجِبِ مَنْدُوبٌ، وَالْمُبَاحُ مِلْءُ ثُلُثِ بَطْنِهِ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إذَا امْتَلَأَتْ الْمَعِدَةُ مَاتَتْ الْفِكْرَةُ، وَخَرَسَ لِسَانُ الْحِكْمَةِ، وَقَعَدَتْ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ كَثُرَ شُرْبُهُ، وَمَنْ كَثُرَ شُرْبُهُ كَثُرَ نَوْمُهُ وَكَثُرَ لَحْمُهُ، وَمَنْ كَثُرَ لَحْمُهُ قَسَا قَلْبُهُ، وَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ غَرِقَ فِي الْآثَامِ، وَالزَّائِدُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الضَّرَرُ حَرَامٌ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ.
(وَ) مِنْ الْآدَابِ الْمُقَارِنَةِ أَيْضًا أَنَّك (إذَا أَكَلْت مَعَ غَيْرِك) وَلَوْ كَانَ مُشَارِكًا لَك فِي الطَّعَامِ (أَكَلْت مِمَّا يَلِيك) لِأَنَّ أَكْلَك مِنْ الَّذِي يَلِي صَاحِبَك تَعَدٍّ، وَبِهِ تُنْسَبُ إلَى الشَّرَهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَاحِبُ لَك فِي الْأَكْلِ وَلَدًا لَك أَوْ يَكُونَ الطَّعَامُ مُخْتَلِفًا، وَأَمَّا وَلَدُك فَلَا يَلْزَمُك التَّأَدُّبُ مَعَهُ، وَإِنْ لَزِمَهُ التَّأَدُّبُ مَعَك فَلَا يَأْكُلُ مِمَّا يَلِيك.
(وَ) مِنْ الْآدَابِ الْمُقَارِنَةِ أَيْضًا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَك أَنْ (لَا تَأْخُذَ لُقْمَةً حَتَّى تَفْرَغَ) مِنْ بَلْعِ (الْأُخْرَى) لِئَلَّا تُنْسَبَ إلَى الشَّرَهِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْأَكْلِ وَلِئَلَّا تَشْرَقَ فَيَحْصُلَ لَك الْخَجَلُ، هَكَذَا عَلَّلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا عِنْدَ أَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي الْإِطْلَاقُ لِئَلَّا يَتَّخِذَهُ عَادَةً فَيَتَوَصَّلَ إلَى فِعْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ.
وَمِنْ الْآدَابِ تَصْغِيرُ اللُّقْمَةِ إنْ أَكَلَ مَعَ مَنْ يُصَغِّرُهَا وَيَتَمَهَّلُ مِثْلَهُمْ، وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ إنْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ لِأَنَّ سَبْقَهُمْ مَذْمُومٌ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنْ مُدَّتْ الْأَيْدِي إلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ
وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ هُنَا لَيْسَ عَلَى بَابِهِ.
وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَفْعَلَ عِنْدَ أَكْلِك مَا يَسْتَقْذِرُهُ غَيْرُك مِنْ نَحْوِ الْبُصَاقِ أَوْ الِامْتِخَاطِ، أَوْ رَدِّ بَعْضِ اللُّقْمَةِ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ وَضْعِهَا فِي فَمِك. وَمِنْ الْآدَابِ الْإِكْثَارُ مِنْ حِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَمَنَاقِبِ نَحْوِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُرِيحُ الْآكِلَ وَيُقَوِّي نَهِمَتَهُ وَيُنْبِئُ عَنْ سَمَاحَتِك، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُصَاحِبُ لَك ضَيْفًا. وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَنْظُرَ إلَى غَيْرِك حَالَ أَكْلِهِ، وَأَنْ لَا تَقُومَ قَبْلَ قِيَامِهِ، هَكَذَا قَالُوهُ، وَأَقُولُ: يَنْبَغِي إلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدَك أَوْ سَيِّدَك مِمَّنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَجَلُ بِقِيَامِك قَبْلَهُ.
١ -
وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَقُولَ لِمَنْ يَأْكُلُ مَعَك فِي حَالِ أَكْلِهِ كُلْ فَإِنَّهُ يُخْجِلُهُ، بِخِلَافِ لَوْ تَرَكَ الْأَكْلَ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِك لَهُ كُلْ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ وَبِسَمَاحَتِك وَيَزْدَادُ جَبْرًا، وَلَكِنْ لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ قَالَ بِكَرَاهَةِ الْحَلِفِ عَلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّ الْوَارِدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا هُوَ قَوْلُ: «كُلْ كُلْ كُلْ ثَلَاثًا» ، أَوْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ الْحَلِفَ لِأَنَّ الشَّخْصَ رُبَّمَا يَكُونُ خَجِلًا وَيَتَوَهَّمُ عَدَمَ سَمَاحَتِك إلَّا بِالْحَلِفِ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ لَيَأْكُلَنَّ فَقِيلَ يَبَرُّ بِثَلَاثِ لُقَمٍ، وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنْ كَانَ