وَيَقُولُ الرَّاكِبُ إذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ
وَتُكْرَهُ التِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَبَلَدِ السُّودَانِ
وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ»
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا سَفَرَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ إلَّا فِي حَجِّ الْفَرِيضَةِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ فَذَلِكَ لَهَا.
ــ
[الفواكه الدواني]
مَشْيِهِ إنْ كَانَ مَاشِيًا وَيَقُولَ (الرَّاكِبُ إذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا بِهِ مُقْرِنِينَ) أَيْ مُطِيقِينَ وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا السَّفِينَةَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: ١٤] أَيْ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ ذِكْرُهُ شَرَعَ فِي أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ بِقَوْلِهِ: (وَتُكْرَهُ التِّجَارَةُ) الَّتِي يُرِيدُ السَّفَرُ بِهَا (إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) الْمُرَادُ الْكَافِرُ لِمَا فِيهِ مِنْ إذْلَالِ دِينِ التَّاجِرِ وَالتَّغْرِيرِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ جُرْحَةً فِي شَهَادَتِهِ.
قَالَ خَلِيلٌ فِي قَوَادِحِ الشَّهَادَةِ: وَتِجَارَةُ الْأَرْضِ حَرْبٌ لِأَنَّ الْمُقِيمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَخْلَاقُهُمْ وَرُبَّمَا يَتَطَبَّعُ بِطِبَاعِهِمْ، وَلَا يَأْمَنُ مِنْ جَبْرِهِ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمَعَاصِي.
(وَ) كَذَا تُكْرَهُ التِّجَارَةُ إلَى (بَلَدِ السُّودَانِ) الْكُفَّارِ وَيَحْتَمِلُ وَلَوْ غَيْرُ كُفَّارٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَخَاطِرِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَعَلَى الثَّانِي عَكْسُهُ، وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ السَّفَرَ إلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ وَلِنَحْوِ فَكِّ أَسِيرٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَتْهُ الرِّيحُ بَلَدَهُمْ غَلَبَةً، وَالْكَرَاهَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنْزِيهِيَّةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ عِنْدَهُمْ، وَلَا يُقَالُ: يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ جَعْلُهُ مِنْ قَوَادِحِ الشَّهَادَةِ مُطْلَقًا، لِأَنَّا نَقُولُ: الْقَدْحُ يَكُونُ بِالْمَكْرُوهِ وَبِكُلِّ مُزَوَّرٍ وَلَوْ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ.
وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةً لِارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَا يُنَفِّرُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ» وَتَمَامُهُ: «يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهِمَتَهُ مِنْ وُجْهَتِهِ فَلْيُعَجِّلْ الْأَوْبَةَ إلَى أَهْلِهِ» . وَقَوْلُهُ: قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَحْتَمِلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَيَحْتَمِلُ مَا هُوَ أَعَمُّ لِأَنَّ الدُّنْيَا مُمْتَزِجَةٌ مَعَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ وَسُرُورٍ فِي الدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَكُلَّ هَمٍّ وَغَمٍّ وَعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنْ النَّارِ، وَإِنَّمَا كَانَ قِطْعَةً مِنْ الْعَذَابِ لِأَنَّ فِيهِ فُرْقَةَ الْأَحْبَابِ وَمُجَاهِدَةَ النَّفْسِ وَتَشْتِيتَ الْخَاطِرِ وَمُذَكِّرٌ لِفِرَاقِ الدُّنْيَا، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ مُخَالَطَةُ مَنْ لَا تُشْتَهَى مُخَالَطَتُهُ، وَكَفَى بِمَا ذُكِرَ عَذَابًا فِي الْحِسِّ وَالْمَعْنَى حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْلَا أَنِّي أَزِيدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقُلْت الْعَذَابُ قِطْعَةٌ مِنْ السَّفَرِ، وَقَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: «يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ مِنْ نَوْمِهِ» إلَخْ الْمُرَادُ يَمْنَعُهُ كَمَالُ نَوْمِهِ وَلَذَّةُ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَالنَّهِمَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْحَاجَةُ.
وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةَ الْخَلْوَةِ وَالْمُخَالَطَةِ بِالْأَجَانِبِ قَالَ: (وَلَا يَنْبَغِي) بِمَعْنَى لَا يَحِلُّ (أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا) كَأَبِيهَا أَوْ أَخِيهَا وَمَنْ فِي حُكْمِهَا كَزَوْجِهَا (سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَأَكْثَرَ) سَوَاءً فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، وَلَا مَفْهُومَ لِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ مِنْهُ بِمَحْرَمٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَرَدَ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذِهِ، وَحُمِلَ اخْتِلَافُهَا عَلَى اخْتِلَافِ السَّائِلِينَ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَفْهُومَ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ شُمُولُهُ لِلشَّابَّةِ وَالْمُتَجَالَّةِ وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ لِابْنِ رُشْدٍ بِالشَّابَّةِ، وَأَمَّا الْمُتَجَالَّةُ فَيَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الَّتِي انْقَطَعَ أَرَبُ الرِّجَالِ مِنْهَا جُمْلَةً وَسَافَرَتْ مَعَ مَنْ مِثْلُهُ لَا يُتَوَهَّمُ مَيْلُهُ إلَيْهَا ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ مَنْعِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ مَسْأَلَةً بِقَوْلِهِ: (إلَّا فِي حَجِّ الْفَرِيضَةِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ مَالِكٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ كَانَ سَفَرُهَا (فِي رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ فَذَلِكَ) جَائِزٌ (لَهَا) قَالَ خَلِيلٌ مُشْبِهًا فِي الْوُجُوبِ: كَرُفْقَةٍ أُمِنَتْ بِفَرْضٍ أَيْ فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهَا وَالْفَرْضُ يَشْمَلُ كُلَّ فَرْضٍ، كَمَا إذَا أَسْلَمَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أُسِرَتْ وَأَمْكَنَهَا الْهُرُوبُ، وَيَشْمَلُ حَجَّ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ وَالْحِنْثِ وَالرُّجُوعِ إلَى الْمَنْزِلِ لِإِتْمَامِ الْعِدَّةِ إذَا خَرَجَتْ ضَرُورَةً فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إلَّا فِي حَجِّ الْفَرِيضَةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّفْقَةِ فَهَلْ يَكْفِي فِيهَا مَحْضُ النِّسَاءِ أَوْ مَحْضُ الرِّجَالِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْمَجْمُوعِ، تَرَدُّدٌ لِلشُّيُوخِ فِي فَهْمِ قَوْلِ الْإِمَامِ تَخْرُجُ مَعَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ هَلْ الْوَاوُ عَلَى بَابِهَا وَلَا بُدَّ مِنْ مَجْمُوعِ الصِّنْفَيْنِ أَوْ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ فَيَكْفِي أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِنِسَاءٍ أَوْ رِجَالٍ أَوْ بِالْمَجْمُوعِ تَرَدُّدٌ، وَحُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَحْرَمُ أَوْ الزَّوْجُ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهَا إلَّا بِأُجْرَةٍ لَزِمَهَا، وَمَفْهُومُ حَجِّ الْفَرِيضَةِ أَنَّ حَجَّ النَّفْلِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَسْفَارِ الْغَيْرِ الْوَاجِبَةِ لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهَا مَعَ الْمَحْرَمِ أَوْ الزَّوْجِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مُوَافِقٌ لِلرَّاجِحِ، وَإِنَّمَا قَصَرَهَا عَلَى مَالِكٍ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَنْسُوبَةً لَهُ، لَا لِلتَّبَرِّي مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي أُمُورٍ مُهِمَّةٍ يَحْتَاجُ الشَّخْصُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: