للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْكُحْلُ لِلتَّدَاوِي لِلرِّجَالِ جَائِزٌ وَهُوَ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ

وَلَا يُتَعَالَجُ بِالْخَمْرِ وَلَا بِالنَّجَاسَةِ وَلَا بِمَا فِيهِ مَيْتَةٌ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا

ــ

[الفواكه الدواني]

فِي الِاكْتِسَابِ وَالتَّوَكُّلِ اُخْتُلِفَ ... وَالرَّاجِحُ التَّفْصِيلُ حَسْبَ مَا عُرِفْ

لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ التَّوَكُّلِ وَكَانَ يَسْتَعِدُّ لِلْحَرْبِ، وَقَالَ لِصَاحِبِ النَّاقَةِ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» .

(وَ) كَذَا لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ (التَّعَوُّذِ) أَوْ التَّحَصُّنِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَفْهُومَةِ الْمَعْنَى مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ.

قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: ٩٨] وَقَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: ١] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: ٢] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ فِي يَدِهِ وَيَمْسَحُ بِهَا مَا بَلَغَ مِنْ جَسَدِهِ.

(وَ) كَذَا لَا بَأْسَ بِارْتِكَابِ (التَّعَالُجِ) وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْمَرَضِ لِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» فَإِنْزَالُ الدَّوَاءِ أَمَارَةُ جَوَازِ التَّدَاوِي، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الْعَالِمِ بِأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ، وَمَا يُنَاسِبُ كُلَّ مَرَضٍ لِئَلَّا يَكُونَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: إنْ عَالَجَ الْعَالِمُ بِالطِّبِّ الْمَرِيضَ وَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ أَوْ الْمُقَصِّرِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا نَشَأَ عَنْ فِعْلِهِ، وَيَجُوزُ التَّعَالُجُ بِكُلِّ مَا يَرَاهُ الْعَالِمُ بِالطِّبِّ نَافِعًا وَمُنَاسِبًا لِصَاحِبِ الْمَرَضِ مِنْ الْأَسْمَاءِ.

(وَشُرْبُ الدَّوَاءِ) بِالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ أَوْ كَسْرِهَا.

(وَ) بِنَحْوِ (الْفَصْدِ) وَهُوَ قَطْعُ بَعْضِ الْعُرُوقِ لِخُرُوجِ الدَّمِ الْفَاسِدِ. (وَالْكَيِّ) الَّذِي هُوَ الْحَرْقُ بِالنَّارِ فَقَدْ كَوَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ حِينَ أَصَابَتْهُ اللُّوَقَةُ وَاكْتَوَى بَعْدَهُ جَمْعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ يَجُوزُ التَّعَالُجُ بِهَا كَمَا يَجُوزُ بِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى التَّعَالُجِ بِهَا مَعَ جَوَازِهِ بِغَيْرِهَا أَيْضًا لِمَا فِي بَعْضِهَا مِنْ الْخِلَافِ، فَلَا بَأْسَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا لِلْجَوَازِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بِخِلَافِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلِاسْتِرْقَاءِ وَالتَّعَوُّذِ فَإِنَّهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاءَ وَالتَّعَوُّذَ مُسْتَحَبَّانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّيُوخِ.

(وَالْحِجَامَةُ) وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ (حَسَنَةٌ) أَيْ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احْتَجَمَ وَأَمَرَ بِدَفْعِ الْأَجْرِ لِلْحَاجِمِ» .

وَقَالَ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شِفَاءُ أُمَّتِي فِي ثَلَاثٍ» فَذَكَرَ مِنْهَا شَرْطَةَ مِحْجَمٍ، وَتَجُوزُ فِي كُلِّ أَيَّامِ السَّنَةِ حَتَّى السَّبْتِ وَالْأَرْبِعَاءِ، بَلْ كَانَ مَالِكٌ يَتَعَمَّدُ الْحِجَامَةَ فِيهَا، وَلَا يَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الْحِجَامَةِ فِيهِمَا فَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا نَبَّهَ عَلَى حُسْنِ الْحِجَامَةِ مَعَ إيهَامِهِ عَدَمَ اسْتِحْسَانِ الِاسْتِرْقَاءِ وَالتَّعَوُّذِ مَعَ أَنَّهُمَا كَذَلِكَ، دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهَا كَالْكَيِّ وَالْفَصْدِ فِي الْجَوَازِ الْمُسْتَوِي لِوُقُوعِهَا بَعْدَهُمَا، وَأَفْضَلُ مَا يُتَعَالَجُ بِهِ الْحَمِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرَ رَجُلٌ عِنْدَ هَارُونَ الرَّشِيدِ حِينَ سَأَلَهُ نَصْرَانِيٌّ: هَلْ تَرَكَ نَبِيُّكُمْ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْأَبَدَانِ؟ وَهَلْ فِي كِتَابِكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: فِي كِتَابِنَا شَطْرُ آيَةٍ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: ٣١] وَمِنْ كَلَامِ نَبِيِّنَا كَلِمَاتٌ: «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحَمِيَّةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَأَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبُرْدَةُ» قَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ كِتَابُكُمْ وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا.

(فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِالْحِجَامَةِ) مِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْحِجَامَةَ أَنْ لَا يَقْرَبَ النِّسَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَبَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَمِثْلُ الْحِجَامَةِ فِي ذَلِكَ الْفَصَادَةُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْحِجَامَةَ فِي الْغَدِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَعَشَّى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَ الْعَصْرِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ مِرَّةٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَلْيَذُقْ شَيْئًا قَبْلَ حِجَامَتِهِ خِيفَةَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى عَقْلِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ مَالِحًا إثْرَ الْحِجَامَةِ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْقُرُوحُ وَالْجَرَبُ، نَعَمْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إثْرَهَا الْحُلْوُ لِيَسْكُنَ مَا بِهِ ثُمَّ يَحْسُو شَيْئًا مِنْ الْمَرَقَةِ وَيَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ الْحُلْوِ إنْ قَدَرَ، وَيَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ اللَّبَنِ بِسَائِرِ أَصْنَافِهِ وَلَوْ رَائِبًا، وَيُقَلِّلُ شُرْبَ الْمَاءِ فِي يَوْمِهِ. وَمِنْهَا: اجْتِنَابُ الْحِجَامَةِ فِي نَقْرَةِ الْقَفَا لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا تُوَرِّثُ النِّسْيَانَ، وَالنَّافِعَةُ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهَا فِي هَذَا الْمَحَلِّ نَافِعَةٌ مِنْ وَجَعِ الرَّأْسِ وَالْأَضْرَاسِ وَالنُّعَاسِ وَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ» وَلَا تَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَضُرُّ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَرْكُ الْحِجَامَةِ فِي زَمَنِ شِدَّةِ الْحُرِّ فِي الصَّيْفِ، وَمِثْلُهُ شِدَّةُ الْبَرْدِ فِي الشِّتَاءِ، وَأَحْسَنُ زَمَانِهَا الرَّبِيعُ، وَخَيْرُ أَوْقَاتِهَا مِنْ الشَّهْرِ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي النُّقْصَانِ قَبْلَ انْتِهَاءِ آخِرِهِ.

(وَ) لَا بَأْسَ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ (الْكُحْلِ) الْإِثْمِدِ (لِلتَّدَاوِي) مِنْ مَرَضِ الْعَيْنِ (لِلرِّجَالِ) وَيَحْتَمِلُ رَفْعُ الْكُحْلِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَالْكُلُّ بِمَعْنَى الِاكْتِحَالِ لِلتَّدَاوِي حَسَنٌ لِلرِّجَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْحِجَامَةُ حَسَنَةٌ، وَمَفْهُومٌ لِلتَّدَاوِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ فِعْلُهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ وَلِمَالِكٍ قَوْلٌ آخَرُ جَوَازُهُ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا عِنْدَ النَّوْمِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ» وَعَلَّلَ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ) أَيْ الِاكْتِحَالُ بِالْإِثْمِدِ (مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ) فَيَجُوزُ لَهُنَّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ اسْتِعْمَالُ مَا هُوَ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>