للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهَدَايَاهُ تُسَاقُ بَيْنَ يَدَيْهِ»؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّشْهِيرِ إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ فَحِينَئِذٍ يَقُودُهَا. قَالَ (وَأَشْعَرَ الْبَدَنَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَلَا يُشْعِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) (وَيُكْرَهُ) وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِدْمَاءُ بِالْجُرْحِ لُغَةً (وَصِفَتُهُ أَنْ يَشُقَّ سَنَامَهَا) بِأَنْ يَطْعَنَ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ (مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ) قَالُوا: وَالْأَشْبَهُ هُوَ الْأَيْسَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ طَعَنَ فِي جَانِبِ الْيَسَارِ مَقْصُودًا وَفِي جَانِبِ الْأَيْمَنِ اتِّفَاقًا، وَيُلَطِّخُ سَنَامَهَا بِالدَّمِ إعْلَامًا، وَهَذَا الصُّنْعُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا حَسَنٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ .

وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ إذَا وَرَدَ مَاءً أَوْ كَلَأً أَوْ يُرَدُّ إذَا ضَلَّ وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سُنَّةً، إلَّا أَنَّهُ

عَنْ الْإِحْرَامِ بِلَا فِعْلٍ وَفِيهِ إقْنَاعٌ إلَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ خِلَافُهُ إحْدَاثَ قَوْلٍ ثَالِثِ فَيُتِمُّ الْمُرَادُ.

(قَوْلُهُ: إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ) أَيْ لِلسَّوْقِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا تَنْسَاقُ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ النَّبِيَّ طَعَنَ إلَخْ) قَالُوا: لِأَنَّهَا كَانَتْ تُسَاقُ إلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَقْبِلُهَا فَيَدْخُلُ مِنْ قِبَلِ رُءُوسِهَا، وَالْحَرْبَةُ بِيَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ، وَالطَّعْنُ حِينَئِذٍ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ أَمْكَنَ وَهُوَ طَبْعُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فَيَقَعُ الطَّعْنُ كَذَلِكَ مَقْصُودًا ثُمَّ يَعْطِفُ طَاعِنًا إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِخِلَافِهِ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَشْعَرَ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَعَلَى أَنَّ صِفَتَهُ حَالَةَ الْإِشْعَارِ كَانَ مَا ذُكِرَ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَةٍ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْإِشْعَارَ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَيْمَنَ وَلَا الْأَيْسَرَ إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى فِي كِتَابِ ابْنِ عُلَيَّةَ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ «أَنَّهُ أَشْعَرَ بُدْنَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْكَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ الْمَعْرُوفُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَطَّانِ كَلَامَهُ، لَكِنْ قَدْ أَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى إلَى أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِطَرِيقٍ آخَرَ «أَنَّهُ أَشْعَرَ بُدْنَهُ فِي شِقِّهَا الْأَيْسَرِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ بِأُصْبُعِهِ» الْحَدِيثَ.

وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنْ الْمَدِينَةِ يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهُ فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ " فَهَذَا يُعَارِضُ مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشَدَّ اقْتِفَاءٍ لِظَوَاهِرِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، فَلَوْلَا عِلْمُهُ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ. فَوَجْهُ التَّوْفِيقِ حِينَئِذٍ هُوَ مَا صِرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْإِشْعَارِ فِيهِمَا حَمْلًا لِلرِّوَايَتَيْنِ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ رَاءٍ الْإِشْعَارَ مِنْ جَانِبٍ وَهُوَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا نَعْلَمُ صَرِيحًا فِي وَصْفِهِ كَيْفَ كَانَ لَكِنَّهُ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، إذْ الظَّاهِرُ مَنْ قَاصَدَهَا لِإِثْبَاتِ فِعْلٍ فِيهَا، وَهِيَ تُسَاقُ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِجَلِيَّةِ كُلِّ حَالٍ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَلْزَمُ)

<<  <  ج: ص:  >  >>