أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ
بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ. قُلْنَا: لِأَنَّ بَقَاءَ الْإِنْكَارِ شَرْطُ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْهُ إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ إذَا حَضَرَ وَسَكَتَ لِإِنْزَالِ الشَّرْعِ إيَّاهُ مُنْكِرًا لَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكِرٍ، وَمَا قِيلَ وَقْفُ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُضُورِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الدَّعْوَى لَازِمَةٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَعَ حُضُورِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقِرَّ فَيَبْطُلَ حُكْمُ الْبَيِّنَةِ أَوَّلًا، فَيَطْعَنُ فِي الْبَيِّنَةِ وَيُثْبِتُهُ أَوْ لَا يَطْعَنُ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَمَعَ غَيْبَتِهِ يَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْبَيِّنَةِ أَنْ يَنْفُذَ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ وَبِالْإِقْرَارِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُقِرِّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ بِهَا لِرَجُلٍ لَمْ يَأْخُذْ وَلَدَهَا وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهَا وَبِالْبَيِّنَةِ تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ قَالَ: يُحْكَمُ بِهَا لِأَنَّ إنْكَارَهُ سُمِعَ نَصًّا فَوَجَدَ شَرْطَ حُجِّيَّتِهَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ ثُمَّ غَابَ يَقْضِي بِالْإِقْرَارِ. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ وَيُقْضَى بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ فِي الْبَيِّنَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقَّ الطَّعْنِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَالَ غَيْبَتِهِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ، أَمَّا لَيْسَ لَهُ حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَالَ غَيْبَتِهِ ثَمَّ لَا يُبْطِلُ حَقًّا لَهُ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْغَائِبِ جَمِيعًا، ثُمَّ رَجَعَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ، وَقَالَ: يُقْضَى فِيهِمَا جَمِيعًا وَاسْتَحْسَنَهُ حِفْظًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ، فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ أَوْ حُضُورِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَحَدُ ثَلَاثٍ: نَائِبٌ بِإِنَابَتِهِ كَوَكِيلِهِ، أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي. وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا: يَعْنِي شَخْصًا يَقُومُ مَقَامَهُ حُكْمًا، أَيْ يَكُونُ قِيَامُهُ عَنْهُ حُكْمًا لِأَمْرٍ لَازِمٍ لَهُ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِلْمُسَخَّرِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي لِيَسْمَعَ عَلَيْهِ الدَّعْوَى، وَكَذَا لَوْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي رَجُلًا غَيْرَ خَصْمِهِ لِيَسْمَعَ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَا يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسَخَّرِ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ نَصْبُ الْقَاضِي الْوَكِيلَ عَنْ خَصْمٍ اخْتَفَى فِي بَيْتِهِ وَلَا يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَبْعَثَ أُمَنَاءَهُ إلَى بَابِ دَارِهِ فَيُنَادِيَ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَيَقُولَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute