وبالجملة فمسالك الهوى كثيرة، وفيها ما يَدِقُّ ويَغْمُضُ فيخفى على صاحبه، وكثيرًا ما يتفق ذلك لأكابرَ لا يُرْتَاب في علمهم وفضلهم وورعهم. {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر: ١٠].
واعلم أن الهوى يتفاوت قوَّةً وضعفًا، ويعارضه المانع الدنيويُّ وهو خشية الفضيحة بين الناس وأن يقال: كثير الغلط، يتشبَّثُ بالشبهات الساقطة ويُعْرِضُ عن الحجج النيِّرَة، معاندٌ مكابرٌ لا يخاف الله تعالى، ونحو ذلك. فتستعين النفس بالشبهات وهي لا تحصى كثرةً، وسيأتي ذكر طائفةٍ منها في بابٍ على حِدَةٍ، وهي في نفسها متفاوتةٌ في القوَّة والضعف، ثم يكون الحكم لرقيب الإيمان، فقد يقوى الرقيبُ حتى لا يكاد يبقى للهوى أثرٌ البتَّة، ولا يبقى في المعركة إلا الحجَّة والشبهة، وقد يَضْعُفُ الرقيب على تفاوتٍ، والتوفيق بيد الله.
فلو كانت حجج الحقِّ كما اقْتَرَحْتَ كلُّها يقينيَّةً لا تشتبه على أحدٍ لتعذَّرت الخيانةُ فيها، وبذلك يَنْسدُّ أعظمُ بابٍ من أبواب الابتلاء، وهو الابتلاء في العلم والنظر، ثم يَجُرُّ ذلك إلى الخَلَلِ في الابتلاء في العمل، وذلك مخالفٌ لحكمة الخلق كما تقدَّم، والله سبحانه أعلم وأحكم.