للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

و (قيل سأل رجل حاتماً الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم غلام يتيم من طيء نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه. وأصلح من لحمه، وقدم إلي، وكان فيما قدم إلي الدماغ، فتناولت منه فاستطبته، فقلت: طيب والله. فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأساً رأساً، ويقدم إلي الدماغ وأنا لا أعلم. فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسبة على العرب قبيحة. قيل يا حاتم: فما الذي عوضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس من الغنم، فقيل أنت إذاً أكرم منه فقال: بل هو أكرم، لأنه جاد بكل ما يملكه وإنما جدت بقليل من كثير) (١).

عبد الله بن جدعان:

من الكرماء المشهورين في العصر الجاهلي عبد الله بن جدعان فقد اشتهر بكرمه وجوده، وسخائه وعطائه.

و (كان عبد الله بن جدعان: من مطعمي قريش كهاشم بن عبد مناف، وهو أول من عمل الفالوذ للضيف، وقال فيه أمية بن أبي الصلت.

له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي

إلى درج من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالهشادة

وكانت له جفان يأكل منها القائم والراكب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستظل بظل جفنته في الجاهلية) (٢).

و (حدث إبراهيم بن أحمد قال: قدم أمية بن أبي الصلت مكة على عبد الله بن جدعان، فلما دخل عليه قال له عبد الله: أمر ما جاء بك فقال أمية: كلاب غرمائي قد نبحتني ونهشتني فقال له عبد الله: قدمت علي وأنا عليل من ديون لزمتني، فأنظرني قليلاً يجم ما في يدي، وقد ضمنت قضاء دينك ولا أسأل عن مبلغه، فأقام أمية أياماً وأتاه فقال:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء؟

وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والثناء

كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا ماء

تباري الريح مكرمة وجوداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاء

إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء

إذا خلفت عبد الله فاعلم ... بأن القوم ليس لهم جزاء

فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تميم وأنت لها سماء

فأبرز فضله حقاً عليهم ... برزت لناظرها السماء

وهل تخفى السماء على بصير ... وهل للشمس طالعة خفاء

فلما أنشده أمية هذه الأبيات كانت عنده قينتان فقال لأمية: خذ أيتهما شئت فأخذ إحداهما وانصرف. فمر بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها وقالوا لقد أجحفت به في انتزاعها منه فلو رددتها عليه، فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتهما، لكان ذلك أقرب لك عنده وأكرم من كل حق ضمته لك فوقع الكلام من أمية موقعاً وندم، فرجع إليه ليردها عليه، فلما أتاه بها قال له ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشاً لاموك على أخذها، وقالوا لك كذا وكذا ووصف لأمية ما قال له القوم فقال أمية: والله ما أخطأت يا أبا زهير مما قالوا شيئاً. قال عبد الله: فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أمية:

عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... يبذل وما كل العطاء يزين

وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين

فقال له عبد الله خذ الأخرى، فأخذهما جميعاً وخرج، فلما صار إلى القوم بهما أنشأ يقول:

ذكر ابن جدعان بخ؟ ... ير كلما ذكر الكرام

من لا يجور ولا يعق ... ولا يبخله اللئام

يهب النجيبة والنجيب ... له الرجال والزمام) (٣)

و (كان عبد الله بن جدعان التيمي حين كبر أخذ بنو تيم عليه ومنعوه أن يعطي شيئا من ماله، فكان الرجل إذا أتاه يطلب منه قال: ادن مني، فإذا دنا منه لطمه ثم قال: اذهب فاطلب بلطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تيم من ماله.

وفيه يقول ابن قيس:

والذي إن أشار نحوك لطما ... تبع اللطم نائل وعطاء

وابن جدعان هو القائل:

إني وإن لم ينل مالي مدى خلقي ... وهاب ما ملكت كفي من المال

لا أحبس المال إلا ريث أتلفه ... ولا تغيرني حال عن الحال) (٤) ...


(١) ((المستجاد من فعلات الأجواد)) للتنوخي.
(٢) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (٣/ ٢٣٩).
(٣) ((المستجاد من فعلات الأجواد)) للتنوخي.
(٤) ((عيون الأخبار)) للدينوري (١/ ٤٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>