للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[التوبة من الغيبة]

تكون التوبة من الغيبة بالاستغفار والندم، والاستحلال من الذي اغتيب.

(فهذا الذنب يتضمن حقين: حق لله، وحق للآدمي، فالتوبة منه بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه .. وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره من الغيبة، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وقذفه بذكر عفته، ويستغفر له بقدر ما اغتابه) (١).

قال الإمام الغزالي: (اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من حق الله سبحانه ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته .. ثم قال: وقال الحسن: يكفيه الاستغفار دون الاستحلال. وقال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه وتدعو له بخير. وسئل عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة؟ قال: أن تمشي إلى صاحبك فتقول له: كذبت فيما قلت، وظلمتك وأسأت، فإن شئت أخذت بحقك، وإن شئت عفوت، وهذا هو الأصح. وقول القائل: العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال، كلام ضعيف، إذ قد وجب في العرض حد القذف وتثبت المطالبة به بل في الحديث الصحيح ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه، من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته)) (٢)، وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل: (قد اغتبتيها فاستحليها) (٣). فإذا لابد من الاستحلال إن قدر عليه فإن كان غائبا أو ميتا فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء ويكثر من الحسنات) (٤).

وقال ابن القيم: (والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه بل يكفيه الاستغفار وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. والذين قالوا: لا بد من إعلامه، جعلوا الغيبة كالحقوق المالية، والفرق بينهما ظاهر، فإن الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها وإن شاء تصدق بها، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع صلى الله عليه وسلم فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدا، وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم لا يبيحه ولا يجوزه فضلا عن أن يوجبه، ويأمر به ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها، لا على تحصيلها وتكميلها والله تعالى أعلم) (٥).

(قال الزركشي في المنثور: (وفي الأعراض يأتي من اغتابه ويخبره بما قال فيه حتى يعفو عنه ولا يكفي الإبهام)، ثم نقل عن الإحياء أنه لا يجب الإخبار إذا كان يتأذى الإساءة إليه، ونقل عن جملة من علماء السلف أنه لا يجوز إبلاغه لما فيه من الإيذاء، وقد آذاه أولاً فلا يؤذيه ثانياً، بل يستغفر له ويندم على غيبته) (٦).


(١) ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) مازن بن عبد الكريم الفريح (ص٦٢) بتصرف.
(٢) رواه البخاري (٦٥٣٤).
(٣) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (٣/ ١١٤).
(٤) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (٣/ ١٥٤).
(٥) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (٢١٩).
(٦) ((إبراء الذمة من حقوق العباد)) لنوح علي سلمان (ص٦٠٥ - ٦٠٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>