للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الصبر المحمود وأقسامه]

قسم العلماء الصبر المحمود إلى أقسام عدة، فقسمه الماوردي إلى ستة أقسام كما سيأتي، وذكر له ابن القيم ثلاثة أنواع وهو: (صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله

فالأول: الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: ١٢٧]. يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.

والثاني: الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض.

والثالث: الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها وينزل معها أين استقلت مضاربها، فهذا معنى كونه صابرا مع الله أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين) (١).

وقسمه الماوردي إلى ستة أقسام فقال:

(فأول أقسامه وأولاها: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى الله عنه؛ لأن به تخلص الطاعة وبها يصح الدين وتؤدى الفروض ويستحق الثواب، كما قال في محكم الكتاب: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:١٠] ... وليس لمن قل صبره على طاعة حظ من بر ولا نصيب من صلاح ...

وهذا النوع من الصبر إنما يكون لفرط الجزع وشدة الخوف فإن من خاف الله - عز وجل - وصبر على طاعته، ومن جزع من عقابه وقف عند أوامره.

الثاني: الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده الحزن عليها، أو حادثة قد كده الهم بها فإن الصبر عليها يعقبه الراحة منها، ويكسبه المثوبة عنها.

فإن صبر طائعا وإلا احتمل هما لازما وصبر كارها آثما

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للأشعث بن قيس: (إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور) (٢) ...

الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خرق.

... وقال بعض الحكماء: (اجعل ما طلبته من الدنيا فلم تنله مثل ما لا يخطر ببالك فلم تقله)

الرابع: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها فلا يتعجل هم ما لم يأت، فإن أكثر الهموم كاذبة وإن الأغلب من الخوف مدفوع.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بالصبر يتوقع الفرج ومن يدمن قرع باب يلج)) (٣).

وقال الحسن البصري رحمه الله: (لا تحملن على يومك هم غدك، فحسب كل يوم همه.)

الخامس: الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها، وينتظر من نعمة يأملها فإنه إن أدهشه التوقع لها، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب واستفزه تسويل المطامع فكان أبعد لرجائه وأعظم لبلائه.

وإذا كان مع الرغبة وقورا وعند الطلب صبورا انجلت عنه عماية الدهش وانجابت عنه حيرة الوله، فأبصر رشده وعرف قصده.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصبر ضياء)) (٤).

يعني - والله أعلم - أنه يكشف ظلم الحيرة، ويوضح حقائق الأمور.

السادس: الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف.

فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء، فإن من قل صبره عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه.

وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: ١٧].

... واعلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر) (٥).


(١) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (٢/ ٤٢٩).
(٢) ذكره الماوردي في ((أدب الدنيا والدين)) (٢٨٨).
(٣) ذكره الماوردي في ((أدب الدنيا والدين)) (٢٨٩).
(٤) رواه مسلم (٢٢٣) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(٥) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي - بتصرف (٢٩٥ - ٢٩٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>