للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[فضل المروءة]

يقول الإمام الماوردي: (وفي اشتقاق اسم المروءة من كلام العرب ما يدل على فضيلتها عندهم وعظم خطرها في نفوسهم ففيه وجهان:

أحدهما مشتقة من المروءة والإنسان فكأنها مأخوذة من الإنسانية والوجه الثاني أنها مشتقة من المريء وهو ما استمرأه الإنسان من الطعام لما فيه من صلاح الجسد فأخذت منه المروءة لما فيها من صلاح النفس) (١)

(وهي خلق رفيع القدر يستعمله الأدباء في المدح وعلماء الأخلاق والنفس في مكارم الأخلاق وسمو النفس وعلماء الشرع من فقهاء ومحدثين في صفات الراوي والشاهد ليوثق بكلامهما والقاضي ليطمئن إلى عدل, فتجدها في كتب أصول الفقه في صفات الراوي, وكذلك في كتب الحديث بينما تجدها في كتب الفقه في كل باب يتعرض للعدالة بالشرح والتفصيل كالقضاء والشهادة والوقف) (٢).

فأكثر العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء من ذكرها وبيان كنهها وماهيتها, وبما تكون, وكيف تكون, فتنوعت فيها الأقوال وتعددت فيها الآراء وتباينت فيها العبارات (فمن قائل قال المروءة ثلاثة إكرام الرجال إخوان أبيه وإصلاحه ماله وقعوده على باب داره, ومن قائل قال المروءة إتيان الحق وتعاهد الضعيف, ومن قائل قال المروءة تقوى الله وإصلاح الضيعة والغداء والعشاء في الأفنية, ومن قائل قال المروءة إنصاف الرجل من هو دونه والسمو إلى من هو فوقه والجزاء بما أتى إليه, ومن قائل قال مروءة الرجل صدق لسانه واحتماله عثرات جيرانه وبذله المعروف لأهل زمانه وكفه الأذى عن أباعده وجيرانه, ومن قائل قال إن المروءة التباعد من الخلق الدني فقط, ومن قائل قال المروءة أن يعتزل الرجل الريبة فإنه إذا كان مريبا كان ذليلا وأن يصلح ماله فإن من أفسد ماله لم يكن له المروءة والإبقاء على نفسه في مطعمه ومشربه, ومن قائل قال المروءة حسن العشرة وحفظ الفرج واللسان وترك المرء ما يعاب منه, ومن قائل قال المروءة سخاوة النفس وحسن الخلق, ومن قائل قال المروءة العفة والحرفة أي يعف عما حرم الله ويحترف فيما أحل الله, ومن قائل قال المروءة كثرة المال والولد, ومن قائل قال المروءة إذا أعطيت شكرت وإذا ابتليت صبرت وإذا قدرت غفرت وإذا وعدت أنجزت, ومن قائل قال المروءة حسن الحيلة في المطالبة ورقة الظرف في المكاتبة, ومن قائل قال المروءة اللطافة في الأمور وجودة الفطنة, ومن قائل قال المروءة مجانبة الريبة فإنه لا ينبل مريب وإصلاح المال فإنه لا ينبل فقير وقيامه بحوائج أهل بيته فإنه لا ينبل من احتاج أهل بيته إلى غيره, ومن قائل قال المروءة النظافة وطيب الرائحة, ومن قائل قال المروءة الفصاحة والسماحة, ومن قائل قال المروءة طلب السلامة واستعطاف الناس, ومن قائل قال المروءة مراعاة العهود والوفاء بالعقود, ومن قائل قال المروءة التذلل للأحباب بالتملق ومداراة الأعداء بالترفق, ومن قائل قال المروءة ملاحة الحركة ورقة الطبع, ومن قائل قال المروءة هي المفاكهة والمباسمة ... ) (٣) إلى غير ذلك من الأقوال والآراء في حقيقة المروءة وحدِّها الذي تعرف به, وفي تنوع هذه الأقوال دليل على فضل هذه السجية الكريمة وعلو شأنها ورفعة قدرها, وبيان ما تنطوي عليه من الفضائل التي تسمو بالنفس عن منزلة البهيمية الحيوانية, إلى منزلة الإنسانية الكاملة.

إن الاختلاف في تعريف المروءة ليس من باب اختلاف التضاد والتباين بل هو من باب اختلاف التنوع وتعدد الأجناس تحت الأصل الواحد, فكل هذه التعاريف مندرجة تحت لواء المروءة مستظلة بظلها الوارف, فهي تشمل كل ما ذكر من فضائل وسجايا وأخلاق كريمة, وكفى بذلك فضلاً وشرفاً.

قال أبو حاتم رحمه الله: (اختلفت ألفاظهم في كيفية المروءة ومعاني ما قالوا قريبة بعضها من بعض).


(١) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك)) (ص٣٠).
(٢) ((عدالة الشاهد في القضاء الإسلامي)) (٣٣٧).
(٣) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص٢٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>