للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سابعاً: وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (١).

البر: هو جماع أفعال الخير، وقد عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه حسن الخلق، فهذا يدل على أن حسن الخلق يشتمل على جماع أفعال الخير، والاتساع فيما يقرب إلى الله تعالى ويرضيه سبحانه.

أما كون الإثم ما حاك في نفس الإنسان وكره أن يطلع عليه الناس، ففيه إشارة إلى الضمير الأخلاقي الذي فطر الله الناس عليه، وهذا الضمير يحس بالفضيلة الخلقية كما يحس الإثم، وحينما يحس بالإثم يلامس نفسه شعور خاص به، وحينما يحدث هذا الشعور في النفس يقدر الإنسان أن ما أحس به من شأنه أن يحس به كل إنسان آخر إذا اطلع عليه، لأن الناس يشتركون معه في القدرة على الإحسان بالإثم، لذلك فهو يكره أن يطلع عليه الناس، لئلا يخسر مكانته في نفوسهم حينما يعلمون أنه امرؤ آثم.

وهذا المقياس النبوي مقياس صحيح دقيق عند ذوي القلوب المؤمنة، التي لم تفسد موازينها الفطرية بارتكاب القبائح والآثام.

ثامناً: وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) (٢).

الألد: هو شديد الخصومة. الخصم: هو كثير الخصومة، المولع بها حتى تصير الخصومة عادة له.

وظاهر أن الخصم الألد سيء الخلق من درجة شديدة القبح، وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أبغض الرجال إلى الله.

تاسعا: وروى الترمذي بإسناد حسن عن أبي ذر وعن معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (٣).

ففي هذا الحديث إرشاد إلى قواعد السلوك الكبرى، التي من التزمها فقد أخذ سبيله لارتقاء مراتب المجد والكمال الإنساني.

وهذه القواعد ترشد إلى المنهج الخلقي العام، الشامل لجانبي علاقة الإنسان بربه وعلاقة الإنسان بالناس.

أما ما يدعو إليه الواجب الأخلاقي بالنسبة إلى علاقة الإنسان بربه، فهو تقوى الله في أي مكان ظاهر أو خفي يكون فيه الإنسان، وذلك لأن الواجب الأخلاقي يفرض على الإنسان طاعة من خلقه فسواه فعدله، فأنعم عليه بالنعم التي لا يستطيع إحصاءها، ويفرض عليه أيضاً حمده وشكره وعبادته، وكل هذه الواجبات يجمعها تقوى الله في السر والعلن، وهذا ما دلت عليه القاعدة الأولى: ((اتق الله حيثما كنت)). وحينما يتقي الإنسان ربه في كل أحواله الظاهرة والباطنة فلابد أن يكون مخلصاً لله في تقواه، وفي هذا تكمن الروح الأخلاقية السامية البعيدة عن النفاق والرياء والسمعة وطلب الثناء من الناس، أو اجتلاب المصالح النفسية أو المادية منهم.

هذه هي القاعدة الأولى:

وأما القاعدة الثانية وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ففيها إرشاد إلى منهج الإصلاح والتقويم، وتدارك النهوض بالنفس بعد سقوطها بارتكاب السيئة، وهذا المنهج ترسمه هذه القاعدة أضبط رسم. فمن سقط بارتكابه السيئة في حالة من حالات الضعف الإنساني فعليه أن يتبع هذه السيئة حسنة مستمدة من منابع الضمير الأخلاقي، فإن للحسنات قوة سبق عجيبة بفضل الله، إذ تمر على السيئات التي كانت قد انطلقت قبلها فتردها وتمحو أثرها عند الله، وتعود نفس المؤمن بالله إلى براءتها ونقائها الخلقي، بعد أن أصابها ما أصابها من أدناس السيئات.

وهذه القاعدة مستمدة من قول الله تعالى في سورة (هود):


(١) رواه مسلم (٢٥٥٣).
(٢) رواه البخاري (٢٤٥٧)، ومسلم (٢٦٦٨).
(٣) رواه الترمذي (١٩٨٧)، وأحمد (٥/ ١٥٣) (٢١٣٩٢). قال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>