للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (١).

قال ابن رجب: (هذا الحديث حديث عظيم؛ وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها وقد قيل: إنه ثلث العلم أو ربعه ... ومعنى الحديث: أن الله أنزل كتابه وبين فيه حلاله وحرامه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه فصار الحلال والحرام على قسمين:

أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم ولا يكاد إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام؛ فهذا هو الحلال البين والحرام البين. ومنه: ما تحليله وتحريمه لعينه كالطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والخبائث من ذلك كله ومنه: ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه كالبيع والنكاح والهبة والهدية وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك.

القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام؟ وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبها عليهم لوضوح حكمه عندهم.

أما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وحرمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما، وهذا معنى الحديث الآخر: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (٢). وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى) (٣).


(١) رواه البخاري (٥٢) ومسلم (١٥٩٩).
(٢) رواه الترمذي (٢٥١٦)، والنسائي (٥٧١١)، وأحمد (١/ ٢٠٠) (١٧٢٣). وصححه الترمذي، وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي.
(٣) ((فتح الباري)) لابن حجر (٥/ ٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>